غريبين وليل.
لم لا تهيم بي المسامع مثله
ما الفرق بين جناحه وجناحي!
إيليا أبو ماضى.
في عتمة الليل البهيم، وفى الفراغ الهلامي العظيم، انطلق مسرعا كأن الريح تحمله، والحقيقة، ليس لها حِمْلٌ على ذلك، فلو تسابقا لسبق، ولو تباريا لغلب، فأي قوة مقارنة بجبروته، خائرة، كريشةٍ في فلاة، ليس لأنه يفوقها قوة، ولا لأنه سيدها، ولكن لأن مقارنة بينهما ليست عادلة، فكل منهما يخضع لقوانين مختلفة.
كانت النجوم المعلقة في السماء والتي تبدو ملتهبة كعيني مارد، منطفأة ومعتمة. كل شيء في دربه يسبح ويرتل ويمضي إلى مصيره في سلام. تلك القوة الرهيبة المدفوعة بقوة تفوق أي قوىً أرضية. مندفعة نحو غرض واحد ووحيد...
فجأةً، اخترقت غلاف الصمت والأحزان.
مشهد رأسي.
الأرض نقطة صغيرة، شبه معتمة، كلما اقتربنا منها تزيد معالمها -المنطمسة- غموضا. الرؤية غير واضحة، لأن مدينتنا نائية، مهمشة ومنسية. شوارعها القليلة تتقاطع طوليا وعرضيا وفق خطة عبثية. كأن يدا جبارة، اغترفت منازلها ثم نثرتها كمن ينثر للطير حَبًا. لكن الزائر يعرف طريقه ويسير وفق خطة معدودة مسبقًا، يقطف زهرة من هنا، وردة من هناك، وكما يقول القائل:
"كل روح وردة أو رحيقها"
عند منتصف الليل تحركت سحابة فظهر من ورائها قمرًا نحاسيًا، كوجهٍ لطفل حزين، لا شيء يدعوه لذلك، لكن سذاجتنا عودتنا على وضع الخيال مكان الواقع، والصور مكان الأفكار! كان الهواء دافئا على غير العادة، ويحمل أصواتا لأرواح متنازعة. هبطنا لأسفل، تحديدا نحو منزل تحوطه هالة مظلمة. عند نافذة مكسورة يقف أمامها طائرا يحدق بعيون جامدة، مسدل عليها ستارا رماديّ؛ بينما ريشة سوداء تسقط من جسده، دون أن يدري، يتخطفها الهواء، بعيدا.. بعيدا إلى حيث لا ندري.
- عمت مساءا. قال الزائر.
حجل حجلة فوقف -تحديدا، أمام الكوة الصغيرة من النافذة، فحجب عنا الرؤية. بعدما رُدَ اليه بصره. حدق مجددا في فراغه المظلم اللانهائي، وفضل ألا يرد التحية.
- لماذا تقف هكذا وحيدا؟
حرك رأسه متأففا بينما يغمغم: إنها ساعة مشؤمة.. مشؤمة.. مشؤمة.
- ما الذي تفعله هنا؟
هناك فوق مرتفع في آخر القرية، وقف كلب ينبح نحو القمر، كانت الريح تزمجر، ولا أحد هناك، ليرى. كلٌ يغط في ثباته. كانت أصوات متداخلة: أنين لعروق خشبية، خشخشة أوراق الشجر، ونافذة مشرعة ظلت ترعد كلما لفحها الهواء.
لي دور أأديه. زمجر بحدة: لي دور أأديه. وكأنك لا تعرف.. لا تعرف.. لا تعرف.
- هل هناك أحد بالداخل؟
يا ملائكة الرحمة! إنه يهزأ ويسخر.. يعرف.. رغم ذلك لا يكف عن السؤال.
لا دخل لك.. اذهب بعيدا، بعيدا..
- ألا ترى أنه ليس من الحكمة أن نقف في البرد هكذا. هلا سمحت لنا بالدخول؟
تململ في مكانه دون أن يحرك جناحاه أو يرد. هدأت نصال البرد لحظة تأهبا لما سيحدث. حين سُمع صوت تفتق لحجر يُنتزع منه عصا أسطورية، كأن بروميثيوس يعاود مجددا دوره القديم، لكن هناك عيب ما، الشعلة قد انطفأت. دوت رعدة رهيبة تساقط على إثرها ما تبقى من زجاج النافذة، انتفض الغراب بريش منتصب كأبر الخياطة، تلفت حوله فلم يجد محدثه، وفطن إلى أنه لم يكن يرهُ من البداية.
ضاربا الهواء بجناحيه. مخلفا دوامة غير مرئية من الغبار، وريشة تتهاوى.. دون أن يبدو عليه التأثر.. وينعق: "إني أحلم، أحلم، أحلم"
من تسلل إلى تلك الحجرة، كان ممن دهمه الحظ بالتعرف على أحداث تلك الليلة. الجسد المتدلي من السقف ينتفض انتفاضته الأخيرة مودعا الحياة بعينان مفتوحتان، مرتعبتان، معتمتان، وتحدقان في ظلام الغرفة الخاوية.
تعليقات
إرسال تعليق