قاعة الشرق

 هنالك، مجلة، ملقاة على طاولة، فوق سطحها اللامع والمطعم بالصدف، مطوية على صفحةٍ، وإلى جوارها طقطوقة، على حافتها، تركت سيجارة، تحترق، ترسل خيطا واهنا من الدخان، وتلفظ أنفاسها الأخيرة. من الناحية الأخرى على اليسار فنجان قهوة نصف ممتلئ. لا بد أن من كان يجلس إلى الطاولة، قد اختار منتصف الكنبة تماما، تحت النافذة، المشرعة.


بفعل الهواء المنساب، الذي يحركها، ويدع فسحة للضوء بالدخول. ارتسمت حزم ضوء، شبحية، مشوهة الشكل، تشبه قليلا متوازي أضلاع متخيل، أو مستطيل؛ ما يهمنا هو التناظر، الشكلي، لوضع الغرفة المنسقة بعناية، وامتداد خيط الضوء، المعكوس من الناحية الغربية، من نافذة علوية، للجار المقابل، متسللا من بين نسيج الستارة ومن الكوة الصغيرة التي ينفحها الهواء، إذ يرتمي على الطاولة، قاطعا ليس المجلة المنسية وحدها، -وإنما الطاولة ومنكسرا على السجادة الدمشقية، الوثيرة، وينتهي عند حافة الباب الخارجي للغرفة؛ التي وإن كانت في الأصل "مكتبة" فقد أعدت أيضا لاستقبال الضيوف إن وجد؛ -بطريقة مائلة تشبه شريط الحداد الذي يزين الإطار المعلق في الجدار الذي تستند عليه الشرفة. 


اقتربنا، ولا أظن أنه سمع، صوتا، لكنه عاد مندفعا من الشرفة، ووقف أمام رفوف المكتبة والتي كان بابها مواربا، نادى على أحد في الداخل يسأله عن كتاب بعينه، أتاه الرد بصوت نسائي حاد: "هناك.. عندك"


- فين؟


- "على الرف فوق التلفزيون". صنع بيده حركة نزقة، وهز رأسه وعلى طرف شفته كلمة توحى بالامتعاض أو قلة الحيلة. كم مرة كان علي أن أخبرك، لتستخدمي ما شئت من المكتبة على أن تعيديه مكانه مرة أخرى! لكنه لم ينطق. أخذ المغلف والذي لم يكن سوى كتالوج أو كتاب مصور يضم أعمال فنية مختلفة وعجيبة. قلب الكتاب الضخم، على وجهه، وأخذ يتصفح الفهرس، يدقق في الأسماء المكتوبة يبحث بينها عن اسم ما، جوان ميرو، سلفادور دالي، بيكاسو، مايكل شوفال، وأخذ يتنقل بين صفحات الكتاب والفهرس، المرتب بغير عناية أو مراعاة لنوع الأعمال التي يقدمها.


 محدثا نفسه، ما الذي تبحث عنه، ما أحوجك إلى تلك الأعمال الآن، لتقلب بها رأسك، وتصيبنا بعمى ألوان، محتم، قم وأت بكتاب آخر، وليكن لأحد نعرفه. 


- من؟

- "ساروخان!" قال الآخر.


يا رجل، ولم يعرف على وجه التحديد، لما قام بتذكير النداء، وما إن كانت تلك الكلمة، تحديدا، تطلق، على الأرواح الهائمة والتي تنسل من أية فرجة صغيرة، حتى ولو كانت عقب الباب، لكن النافذة المشرعة والتي تدع مجالا أكبر وتتسع، لدخول، الأشباح الطيفية، وأكثر من ذلك، باب الحجرة المفتوح. إننا نسألك عن أحد نعرفه، تقول أنت...؟ نريد شيئا مبهجا، يسر الناظرين.


تذكر أنه كان يقلب في كتاب آخر برسومات مختلفة ومتعددة الحالات، كلها لنساء يطللن من شبابيك ومشربيات، بثياب بنات البلد، بشعر مسدل أو جدائل تنفلت دوما للوراء، فلا تخفي ولكن تبرز، استدارة نهدين صغيرين، مضمومين لأعلى كأنه سلاح موجّه؛ أو متطاول، ينفلت، بارتخاء، جانبي، ليغطى ويمتص النظر نحو فرجة مموهة، لابطها العميق.


تنحدر من على الكتف وتضم الخصر ملاءات سود، تحت ثيابهن الملونة بالأزرق، الأحمر والأخضر بشكل طاغ، وأحيانا تصورهن في شكل عرائس المولد، بالكرانيش الملونة، كأنها هالة من أشعة مادية، مدببة، تظهر من ورائهن. تصورهن في حالات متعددة، يغلب عليها الهدأة والأنتظار، انتظار شيء ما، أو نداءا، صامتا، ربما شعورهن بالأرق، الحزن، الحاجة الملحة، أو الرغبة الخفية.


ووضعهن في الشرفات أو وقوفهن أمام أبواب مشرعة غير موجودة، ينشدن إلفا غائبا.. أو أمام المرآة، بأصابع رهيفة وطلاء أظافر مشتعلة حمرته دوما، تمشط شعرها، ربما ذاك ما يشد الانتباه، حاجب، اصبع رهيف أو كعب دقيق في استدارته.. وهي صورة يطغى فيها حضورهن، على باقي الموجودات ويعكس وجهها أو جسدها، تحديدا، نداء رغبتها، وحضورها المطلق.


من أعمال كتلك، اقتبس المنظر الجمالي للحجرة. ضلفتا الشرفة المشرعة، الموشاة بقوس متموج، ينحدر كجديلتين، يستند طرفاها، على كتف، يحمل قوسا آخر يشطرها إلى ضلفتين، توأمين، مزججة بزجاج معشق ومزخرفا، بمنمنمات دقيقة، يعكس فيئا، ذا ألوان زاهية. داخل تلك الحلقات والدوائر الغير متداخلة والمشتبكة في آن، تنفنتح أقواسا لتلتئم مع أقواس دوائر أخرى، ويتفرع داخلها سيقان نباتات، وأزهار، وأشكال دقيقة، ترتمي على الجدار، وتلقي في الروع الإحساس المتشعب، الممتع، بالتيه، والتدفق، المستمر، بغير انقطاع وفي الوقت نفسه بالإلتفاف والعودة، لإكتمال الحركة، وسد أية فرجة لإمكانية تكون الفراغ. ليس في وسع القلب الورع أمام ذلك التداخل البارع والتشتت المبهر، إلا الترتيل بمسابح الجمال والتأمل في خشوع لا نهائي.


كما لا يمكن أن تهمل العين، جدران الحجرة، التي يلفها كبرواز، من أعلى مشغولات خشيبية، تمتد، كأفرع أفقية، متداخلة، تتوسطها أشكالا مثمنة، وترتفع فوق أقواس المكتبة، التي أخذت أشكال قباب غير مكتملة لأن السقف يقف عائقا، ويمنعها، عن السمو، المرغوب، فتحولت إلى محاريب صغيرة. وعلى جانبي المكتبة، عضادتان، تدعمها الأضلع الخشبية كأعمدة راسخة، ومثبتة في جانبي الحائط، تاركة فسحة في المنتصف، أعلى باب المكتبة المتحرك، حيث تأخذ اللحظ، نحو المحراب الأكبر، من حيث يقصد أو دون دراية منه، كانت تتجه، بعمق، ناحية الشرق، تفتن العقل وتشير لما وراءه. ما أوقعه في الحيرة، ليس الشكل، وإنما اللون، إذ أنه رغب فى اختيار لون غير البني أو لون الخشب المحترق ليتناسب مع جمالية مخيلته.


في البدء كان الشكل، كفكرة في الخيال، فأحضر ورقة ووضع عليها نقاط مماثلة للفراغ الذي تركه دون بناء، قسّمها إلى ثلاثة أقسام، على أن يكون ثلثي المساحة للمكتبة، وبدوره وضع نقطتين جديدتين، وهميتين على الورق، وأخذ يخط بالرصاص مثبتا المسطرة، فوق الورقة الملساء، أوصل أربعة خطوط طولية، ثم مسحها، وقام برسمها من جديد بعد أن قسم المساحة بنسبة 1:2:1، أي علبتين، متساويتان، وكل علبة مقسمة إلى عدة أرفف، بالتساوي، وأخذت تقريبا أكثر من نصف الفراغ بقليل، لتنتهي عند كتف العامود الذي سيدخل في المكتبة بحيلة فنية، أخذ رأيها، قبل عرض الفكرة على الصنايعي.


ولما سألته: "تعمل مكتبة، ولا صومعة تعزلك عن باقي البيت؟"


اشتركت برأيها مع النجار الذي قام بتنفيذ المخطط، فالحجرة ستصبح منعزلة عن باقي البيت، لها باب للدخول وهو نفسه للخروج أيضا، فرأى أن ذلك خللا معيبا، إذ تخيل أنه يجلس إلى مكتبه المعلق فوقه الإطار والذى أعلن الحداد على صاحبه، لفترة غير معلومه، لم تنقضي بعد، وأراد الدخول، مثلا، إلى الحمام، فعليه أن يهرع إلى الباب الوحيد، وينتظر ليدخل من الباب الرئيسي للشقة، حين يفتح له، وعلق على ذلك بكلمة اعتراضية لا تنم عن الأدب المنزلي، وإنما عن أخلاق من المؤكد أنه اكتسبها من الشارع، واستبدلها، بأخرى قائلا: "ودنك من أين يا جحا" وهو يقوم بحركات بهلوانية باصابعه، غير أن أحدا لم يلتفت إليه.


كانت فكرته المسبقة التى عرضها في وقت لاحق كما كان يحاول أن يشرح منذ قليل، ولكننا لم نمهله الوقت بمقاطعته، المستمرة، قائلا، انظري، وأشار إلى منتصف الشكل، هنا ستكون "المعبرة"، فرغت فاها، لم يدع مجالا للسؤال وقال بشيء من الأسى: "هنا مكان الباب".


- بس دي أرفف؟!


- "أيوه، وهتكون باب متحرك". "هنا، -وأشار إلى مكان فارغ على حافة الورقة، -مكان التلفزيون"


لم تعي ما يود أن يوضحه لها. ما كان يشغلها في تلك اللحظة هو اللحم المتبل والمعد للشواء. فأكمل، كأنما يوجه حديثه لنفسه، ستنتهي المكتبة عند تلك النقطة من الحائط، وسيكون التلفاز أعلى من الأرضية بقليل.


- "ناوليني المتر"، وكانت لا زالت لا تعي ما يريد أن يقوم به، وطلب منها أن تمسك به من طرفه ووقف في نهاية الحجرة، هز رأسه ودوّن القياس على الورقة، واقترب من الجدار الصغير الذي يفصل بين المكتبتين، وأخذ قياسه، ها.. الآن، كما ترين.. إن قياسه يساوي الثلث تقريبا. ستكون هنا مكتبة للتلفاز، ومن أعلى ومن أسفل ستكون علبتين، أرفف مغلقة أو أدراج، وفوقها، الأرفف، لتتصل مع باقي المكتبة كما هو الحال مع الأدراج.


 قالت: "طب ليه ما نعملهاش أشكال هندسية!" لقد رأتها في أحد الأفلام، وكذا مبررة رغبتها. "لكن، هتسيب الأرفف مفتتوحة؟"


لا، سيقسمها إلى خزانات، ويمكن أن يطلب من النجار تثبيت أحرف بارزة كي لا تسقط محتوياتها مع حركة الباب.


- ومع ذلك لسه في مشكلة؟


- إيه هي؟


- "العامود". نعم، العامود..، بعد أن هدم الجدار الفاصل بين الحجرة وباقي الشقة. شكل العامود خاذوقا حقيقيا. لكنه استغله كجزء من ديكور المكتبة.


سيكون فاصلا بين عالمين، متلازمين، المقروء والمرئي، مكتبة للكتب وأخرى للمتعة البصرية. محدثا نفسه: إذن ستقوم بتجليد العامود، نعم، وتعلق عليه إطارات، في علبة خشبية أخرى، أو اثنيتن، وليكن عمقها كافيا لإضائة خفية، ويدخل في تكوينها، ويعطى شكلا جماليا.


- إيه رأيك؟


- تضيّع من الشقة حجرتين، لأجل مكتبة!.


يا لها من فكرة رائعة! الحق أقول لكم، أنني كنت أرغب في جعلها غرفتين منفصلتين، على أن تكون أحداها للضيوف والأخرى كمكتبة خاصة لي، لكن بذلك ستضيق كلا الحجرتين، ولن أشعر بالإرتياح، في أي منهما.


- هتتبهدل.


- متقلقيش.


- والضيوف؟


- على أساس إنهم واقفين على الباب طوابير!


إنهم يفضلون مشاهدتها، على أن يمسوها، إنها لي، وباقي البيت لك، ثم إننا وحدنا، وليذهب الضيوف إلى الجحيم. كانت ترغب في غرفة ثانية لأطفال لم يأتوا بعد. ولكنها أقتنعت في آخر الأمر، أو أنه ما باليد حيلة! وتركته لجنونه وشجونه. مد يده محاولا أن ينظف ذرات الغبار التي علقت على ثيابها. "يدك!" ضربت كفه بلطف. وعادت إلى مطبخها.


ولا يعرف أحد ما الذي حدث بعد ذلك، جعله يضع تلك اللوحة المعدنية، الصغيرة، المعلقة على واجهة الباب، يراها القادم إليه، هل كان حلما استفاق عليه، أو رآه في أحد الأعمال الدرامية، التي شاهدها في طفولته، عن معاناة أحد الأساتذة، الذين درسوا في الخارج، وعاد أخيرا إلى أرض الوطن، وقرر أن يبني بيتا، يجمع بين الحضارة الغربية والشرقية، وتحديدا، فن الأرابيسك، ولكن الفنان أو الصنايعي، لم تعجبه الفكرة، وأراد أن يخرج فنا أصيلا، كما تعوّد، وأخذ يماطل في مدة تنفيذ العمل، الذي قبله بعد ملاحاة، ويظل العمال يماطلون، وفي النهاية تسقط قبة القاعة، في رسالة واضحة. لكن لم تخطر على باله تلك الخاطرة.


ومع ذلك استيقظنا صباحا، لنجد تلك اللوحة معلقة على الباب، الذي دخلنا منه، ومنقوش عليها الإسم الذي اختاره دون أن يصرح بسبب اختياره لذلك الإسم بالتحديد، واسماها، قاعة الشرق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة زينب لأحمد الطحان.

بين الصحافة والسياسة (2)

كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.