بين الصحافة والسياسة (2)

 

محمد حسنين هيكل مع الرئيس جمال عبد الناصر




يستشهد كلًا من صلاح نصر ومحمد حسنين هيكل بالقضية رقم "1"، قضية اتهام مصطفى أمين بالتخابر والعمالة لصالح جهاز المخابرات الأمريكية باعتبارها القضية المركزية كنموذج مكتمل الأركان لقضايا التجسس. وعدد مصطفى أمين في رسالة اعترافه المكتوبة بخط يده و الموجهة إلى جمال عبد الناصر كل علاقاته مع عملاء المخابرات الأمريكية، منذ أن كان شابًا مقيم في أمريكا وحتى القبض عليه. إلى جانب ذلك أشار إلى بعض المهام المشتركة التي قام بها مع هيكل (يزعم هيكل أن تلك الإشارات مختلقة) بتكليف من عبد الناصر، والتي سبق وأن عرضنا موقف هيكل وتحليله لمجمل سردية مصطفى أمين فيما يتعلق بالإشارات الواردة عنه في ملف الإعتراف: باعتبار أنها ادعاءات ليست كاذبة فقط، ولكن ناتجة عن التباس خلط الوهم بالحقيقة الناتج عن التنويع السردي لنفس "الحدوتة" والتي يعيد "مصطفى أمين" صياغتها مرة تلو الأخرى. وهو نفس الاتهام الذي وجهه الكاتب والصحفي الأستاذ رشاد كامل في كتاب "ثورة يوليو والصحافة"، وقام بتحليل بعض سرديات هيكل التي تتخذ في كل مرة شكلًا روائيًا جديدًا.

 

مذكرات صلاح نصر

 

 

يمكن تلخيص قضية تخابر مصطفى أمين فيما قاله عبد الناصر لهيكل: إنني أعرف أنه ينقل أخبارًا من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا وذلك "ممكن ومفهوم"، ولكن القضية المهمة هي لمن ولاؤه في النهاية؟ لهنا أو لهناك؟

 

أما هيكل الذي كانت تربطه علاقات أقوى من الصداقة بين الأخوين مصطفى وعلي أمين. وكان له دور أكثر من وسيط بينهما وبين عبد الناصر في تلبية مطالبهما المرة تلو الأخرى. يحاول هيكل أن ينأى بنفسه عن أي شبهة تلحق به من تلك العلاقة، ليس بتقديمه مبررات ولكن الرجل في حقيقة الأمر في خضم دهشته أمام تلك القضية يلوم نفسه ويحملها -ظاهريًا- تعلات تلك الشبهات التي يمكن أن يتهامس بها خصومه. وبدلا من أن يدافع هيكل عن نفسه ترك لجمال عبد الناصر تلك المهمة. من خلال موقفين جمعته بجمال عبد الناصر بخصوص تلك القضية، الأول بعد اضطلاعه على تقارير المعلومات وشرائط التسجيلات بين مصطفى أمين وعضو جهاز المخابرات الأمريكية "بروس تايلور"  ص 138، 139 وتساؤلاته العديدة عن نفسه وعن اعطاءه كل الحق لأي شخص يمكن أن يشركه في تحمل المسئولية. 

يتساءل هيكل: ألا استحق عدلًا أن ألام لأنني تأثرت باعتبارات شخصية لعلها جرفتني إلى أبعد ما كان لازمًا؟ هل أقدم استقالتي؟! ثم ألست بتقديم استقالتي الآن أغامر بوضع نفسي في دائرة لم أدخل إليها وفي مجال لا شأن لي به؟! وفي كل الأحوال ماذا أقول لجمال عبد الناصر؟ وكيف أواجهه؟ وبأي لغة أتحدث إليه؟ ص138،139

 الموقف الثاني: بعد تسلمه الرسالة (وثيقة الاعتراف) من جمال، وما ورد فيها، فيما يخص هيكل. هيكل قطعها بأن ذلك لم يحدث. لكن ماذا كان رد فعل جمال عبد الناصر عند قراءته الرسالة، ألم يتوقف عند تلك الاشارات؟ هل ظن كما تصور هيكل أنها من صنيعة خيال الجاسوس المحترف؟ وهل يمكن أن يكذب مصطفى أمين على الرئيس في الرسالة التي كان يأمل بأن تكون مسارًا للعفو عنه؟ وأن يكذب في نقطة هامة كاشتراكه مع هيكل في مهمات نفذاها سويا بعلم عبد الناصر؟

 

يمكن أن يختلق مصطفى أمين لينجو بنفسه، لكن هل يمكن تخيل أن عبد الناصر لم يشير إلى دور هيكل ولو حتى على سبيل السخرية (كما عودنا هيكل نفسه عن تعليقات عبد الناصر)؟ 


يقول هيكل: "لم يكف عبد الناصر حتى آخر يوم في حياته عن استثارة محبتي واعجابي" توقعت كل شيء في ذلك الصباح إلا ما حدث فعلًا" لم يترك لي فرصة وإنما أخذ زمام الحديث من أول لحظة دخلت فيها، قال على الفور: "الوقت يسرقنا ونحن لم نفرغ بعد من اللمسات النهائية لخطاب عيد الثورة ولم تبق عليه غير ساعات" بكل بساطة عبد الناصر تخطى به كل الهواجس والمخاوف التي راودته"


أنقل هنا ما نقله هيكل عن عبد الناصر: "لا تقل شيئًا فأنا أعرف أنك تحتاج إلى وقت لكي تستوعب ما عرفته. أنني لفت نظرك مرات وليس من حقك أن تفاجأ، ومع ذلك فلتنترك المسألة برمتها للتحقيق ونلتفت نحن لما ينتظرنا اليوم. وكانت لدي تعليقات وأسئلة. وكانت ردوده قاطعه: 


لم تكن في حاجة أن تسألني، ثق أنه لن يحدث أي ضغط في التحقيق، ومع ذلك فما حاجة أي محقق للضغط والوقائع كما رأيت كاملة.
أفهم بالطبع أن عائلات مصطفى وعلي أمين سوف يتصلون بك. وأنا لا أخلط بين المسائل، ولك أن تتصرف إنسانيا كما تشاء على أن تزن كل العوامل وتضعها في اعتبارك باستمرار.

لا لا أستطيع مهما كانت دوافعك أن أسمح لك بزيارة مصطفى أمين الآن. ولست مقتنعا بكل ما أبديت من أسباب.

ليس هناك ما يدعوك إلى ان تفكر على هذا النحو، صحيح أنك توسطت لهما عندي أكثر من مرة. لكني أنا الذي استجبت لك ولم يكن في استطاعتك أن تفرض علي شيئا لولا قبولي به. فاذا كانت هناك مسئلية فأنا المسئول. لا داعي الآن لفرط الحساسية وأنا أطلب اليك من الآن أن تمسك أعصابك بأني أعرف أن هناك من هن على استعداد لاستغلال ما حدث ضدك، ولا يصح أن تعطي أحدا وسيلة للنيل منك دون وجه حق" ص 144

 

 هنا وببساطة، نخلص إلى أن جمال هو من يعفي هيكل من أي حرج ويزيح عن كاهلة أية هموم، وفي الموقف الثاني، بعد قراءة رسالة الاعتراف، في ص253:ص255 يسأله الرئيس عن رأيه فيما قرأ، يقول هيكل: "ويبدو أنني عبرت عن شواغلي ولم أجب عن سؤاله، (و) بصرف النظر عن أي شيء فإن الذي يثير قلقي هو "أوضاع الصحافة" ومستقبلها والعاملين فيها والظروف المحيطة بعملهم.. ووجدتني دون ترتيب مسبق أعرض أمامه قصة تطور الصحافة المصرية.. ثم وصلت إلى قرار تنظيم الصحافة سنة 1960.. ثم عدت فقلت أنني أخيرًا أكاد أصل إلى (ال)صيغة.. التي تلائم أكثر من غيرها روح العصر وروح الحرية فيه (!).. وهكذا على طريق العودة إلى القاهرة كانت القضية الجديدة -قانون هيئة الصحافة العربية المتحدة- لقد ملكت عليّ كل حواسي"

وبذا يعفي عبد الناصر هيكل من أية تبعات ويبدد مخاوفه في المرة الأولى، وفي الثانية، يقوم هيكل صاحب السردية الأولى بنفس أسلوب عبد الناصر، وينتقل هيكل إلى أمر أهم، "أوضاع الصحافة" بشكل عام، وقد يكون ذلك في الأخير هو الغرض الحقيقي، فمن تأميم الصحافة إلى خلق مركزًا للقوة في يده هو شخصيًا. 

 

ورغم ما يكيله هيكل من اتهامات ملؤها الدهشة والاشمئزاز والغثيان لما ارتكبه مصطفى أمين، بعد ذلك سيُسمح له بزيارة السجين، وبإدخال الأدوية والفيتامينات، وعلب التفاح المستورد والدجاج. وسيطلب كذلك العفو عنه. بالطبع إن هيكل يقدم تلك السردية أحيانًا في إطار "رابطة الصداقة القديمة، دفعًا عنه اتهامات نكران الجميل، التي وجهت له، أو بأنه كان سببًا رئيسيًا في القضية ليتخلص من التوأم مصطفى وعلي أمين. وحين تتم إعادة فتح التحقيق في القضية  يذكر الأستاذ عبد الله إمام في كتاب القضية رقم 1، ص 287، نص ملفات القضية وشهادة هيكل أمام المحكمة: "بعد كده شاركت في التماس الإفراج عنه فقلت للرئيس إن مصطفى أمين سياسي وما دام حكم عليه خلاص تبقى غايته!"

في كتابه حضرات الزملاء المحترمين يذكر لنا الكاتب والصحفي الفلسطيني: عيب مصطفى أمين أنه انسان متطرف العاطفة ومتطرف القلم، كان يتطرف في كتاباته في مدح الملك فاروق، ثم في مدح عبد الناصر، ثم في مدح السادات، ثم في ذم عبد الناصر، أحب العرب ثم هاجمهم، وأحب الصحفي اللبناني "سعيد فريحة" ثم سخر منه، وأحب هيكل ثم شتمه واتهمه بأنه السبب في دخوله السجن، وكنت أنا أيضًا أحد ضحاياه. ناصر الدين النشاشيبي-حضرات الزملاء المحترمين ص 19

لكن هل الجاسوس يعدُّ سياسيًا، أم أنه ارتكب خطأ لا يغتفر يوجب التخلص منه. هل كان مصطفى أمين صحفي، أم سياسي؟ أم أنه صحفي-سياسي؟ أم العكس؟ وهل معنى ذلك أنه يمكن لأي صحفي أو سياسي أن ينخرط في لعبة "هنا وهناك". يذكر النشاشيبي أن مصطفى أمين: مارس الصحافة بعقلية رجل السياسة ومارس السياسة كصحفي ص20، ماذا عن هيكل نفسه؟ يقول النشاشيبي: لا شك في ذكاء هيكل وخطورة لمحاته وسرعة تفكيره، ولا شك في حدة طموحة واستعداده دائما لملاقاة هذا الطموح بالسهر والتعب والملاحقة والإنتاج، وأيضًا لا شك في كل ما يتمتع به هيكل من شجاعة قد لا تبدو واضحة في خطواته اليومية التقليدية المعروفة.. لكن هيكل الذي كان بعلاقته مع رأس السلطة في مصر "عبد الناصر" على حد قول ناصر النشاشيبي: لا تعرف الحدود ولا القبود ولا التقاليد ولا المسافات. ويكمل كلامه قائلًا: ليس بالخبز -ولا بالقلم- وحده يحيا الإنسان، وقد عاش هيكل بالقلم وغير القلم معًا. ص158، 159.



يعدد لنا هيكل جوانب وأبعاد علاقة الصحافة بسلطة الحكم، وينتهي إلى أن الصحفي يريد الأخبار ويريد استقلاله، والسلطة تريد الوصول إلى الناس ولا يهمها استقلاله. ويفرق هيكل بين أبعاد العلاقة وبين التقارب. فاقتراب الصحفي من عملية صنع الأخبار أي السلطة (بدرجة كافية) فإنه يصبح ليس مجرد شاهد على صنعها وإنما يتحول أحيانًا بدرجة موقعه إلى طرف في صنعها.

 

يقول هيكل في كتابه أن الخيار المتاح للصحافة بعد ثورة 1952، أن تحدد موقعها من تلك السلطة: إما عند الرأس تناقش وتحاور على مستوى القرار، أم هي عند الذيل تمارس دور التابع والأداة. ويمكن لنا بطبيعة الحال أن نتعرف موقع هيكل عند الرأس أم الذيل. ولكن هل يختلف دور التابع والأداة، عن الساعي لخدمة الهدف العام الساعية إليه السلطة إذا كان عند الرأس أو الذيل أو البطن؟. يمكن لنا أن نقول بحذر أن صاحبة الجلالة الصحافة في تصور هيكل الزاحفة بجسدها الكسيح وراء السلطة كأنها أمها التي ولدتها!. يكون الاختلاف: الرأس الساعي لنفس هدف السلطة لا بد من الإبقاء عليه!، أما الذيل "الأداة" يمكن قطعه، ففي الأخير ينتهي دورها سواء بوشاية أو بانقضاء غرض السلطة منها. لكن الرأس الساعي نحو جميع أهداف السلطة! في كتاب الأستاذ رشاد كامل ثورة يوليو والصحافة ص 31 سؤال وجهه الأستاذ سليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة الحوادث للأستاذ هيكل، وقبل أن يجيب يعيد هيكل صياغته: من الذي صنع لي مركزي عند عبد الناصر؟
ويرد: شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف العام الذي كان يسعى إلى تحقيقه.

 

وهنا يمكننا التساؤل: هل كان "هيكل" أداة في يد السلطة، هل بحرصه على علاقته مع عبد الناصر كان شريكًا وطرفًا في صنع القرار؟

 

ولنأخذ جانبًا آخر من سردية هيكل، خلال مسيرته المهنية، عندما أعلن موافقته بالعمل في آخر ساعة وفي أخبار اليوم، يراجع "دون أن يحدد تاريخ مراجعته" علاقة مصطفى أمين بالقصر والملك" والاتهامات الموجهة لتأسيسها نفسه، لا يعلن لنا موقفه الأخلاقي، لكن يستوقفه مثلا أن يقرر في هامش احدى صفحات كتابه ويحدد اتهام مكرم عبيد بأن الصحيفة -أخبار اليوم- تأسست بأموال القصر، أم أنها كانت صنيعة أمريكية؟ هل علم بذلك حينها وقبل أن يكون جزءا من ذلك الفساد؟ هل اكتشفها وقت كتابته للكتاب أم في غدوات الثلاثاء؟ ومتى حصل على الوثائق (كنزه الثمين)، وممن؟ هل بنفس علاقات مصطفى أمين؟ أم بعلاقة تبادل الأخبار اللازمة للصحفي؟ وما هي الأخبار التي تنازل عنها هيكل للحصول على عديد الوثائق؟!!! ولماذا لم يحدد لنا مصادر وثائقه في أحد الهوامش كما يحدد دور علي أمين عند متحليله لوثيقة السفير البريطاني التي تحدد اتصالا دار بين على أمين وبين أحد أعضاء السفارة ويصل إلى نتيجة: بأنها لم تكن المرة الأولى ويحلل هيكل أسبابه؟! ومنذ قيام ثورة يوليو وعند القبض على الأخوين بسبب اتصالهما بجهة أجنبية، ماذا كان الاتصال"التهمة"؟ وما هي المشكلة في الاتصال بجهة اجنبية؟ ألا يصح سياسيًا أن تكون هناك قنوات اتصال خارجية مع الدول وخصوصًا "أمريكا" ليس بالطبع أن يكون الاتصال مع أجهزة الأمن، ولا أن تشكل لوبي "مصري"، ولكن فتح قنوات دبلوماسية غير رسمية تتعاون في نقل وتصحيح الصورة التي ربما تكون خاطئة؟ وماذا كان موقف هيكل بعد أن حذره جمال من علاقته مع مصطفى أمين؟ هل كانت تحذيرات جمال بأن الرجل -هيكل- يتعامل مع جاسوس أم أنه يحذر هيكل من أن يدين نفسه بكلمة مع الجاسوس المحتمل. وهل هي إدانة لمصطفى أمين أن يكون له علاقة بالملك؟ وليست إدانة لأن يكون هيكل هو شريك للنظام في كل شيء فمن تطهير الصحافة وتأميمها إلى جميع القرارت السياسية؟! ينتقد هيكل مصطفى أمين في التقارير التي كان يكتبها لجميع جهات الدولة: الرئاسة، المخابرات، وزارة الإرشاد القومي، وأنها لا تقتصر فقط على الأخبار الخارجية وإنما يمتد ليشمل كواليس الصحافة وما يدور في مجالس الأندية والبيوت. والسؤال نفسه يجب أن يوجه إلى هيكل ألم يفعلها خلال لقاءاته وأحاديثه العديدة مع جمال عبد الناصر؟ وأن كلماته العابرة كانت تتحول إلى قرارات تأميم لأشخاص لمجرد قبوله دعوة لتناول وجبة معهم. (بلال فضل - مقال رحيل المستولي على الرؤوس 1)

 

يأتي بعد ذلك عرض جمال عبد الناصر لهيكل والمتمثل في رئاسة تحرير "الجمهورية" وكانت صادرة باسم جمال عبد الناصر لكنه يرفض، ومن ثم يأتيه عرض آخر من على الشمسي باشا رئيس مجلس إدارة الأهرام في 1955، وكان قد عرض عليه في العام 1951 العمل كمساعد لرئيس تحرير للأهرام واعتذر، اما في 55 عرض عليه رئاسة التحرير واعتذر مجددا ولكن مع الحاح الشمسي في ربيع 1956 مبديًا أسبابه الكثيرة فيستمع هيكل باهتمام، ومن هنا نعرف انه سيقبل العرض. لكن بطبيعة الحال ليس الأمر بالذي يمر هكذا فلا بد من مسببات، لا تدع أمامه من سبيل سوى الموافقة، ولا بد من مشهد درامي: فعندما يعرض الأمر على رؤساءه فإذا بعلي أمين يبكي، ومصطفى أمين يبكي، وإذا بدموعي أنا الآخر -هيكل- تسابق دموع الإثنين ص 67 وبشكل ما انتهى المشهد العاصف -بخطاب اعتذار للأهرام- على أن الأمر لم يدم أكثر من العام ففي ربيع 1957 على موعد لفنجان شاي في نادي الجزيرة مع على الشمسي، يجدد بنفسه العرض الذي رفضه قبل عام ويوقع العقد القديم، والتقى بجمال عارضا عليه الأمر، والتقى بالأخوين الذي لا يخبرنا كيف رضخا في آخر الأمر، وما الذي تغير هل "تحقيق الذات" أم على حد قوله: "امتحانا شعر بأنه متحمسا لدخوله". وهكذا رئاسة الأهرام وكذا رئاسة تحرير آخر ساعة لمدة سنة، مرسيا تقليدًا جديدًا في الصحافة المصرية: "هو أن نحتفظ بعلاقات الصداقة الوثيقة رغم اختلاف مواقع العمل!" ص73 والثاني أن يكون لقاء منظم بيننا كل أسبوع، كل ثلاثاء، في بيت الأستاذ مصطفى أمين، نلتقي ونتحدث ونتبادل الرأي فيما يعن لنا من أمور، ويستمر غداء الثلاثاء بغير انقطاع ثمان سنوات.. لم نخلف موعدًا إلا لسفر أحدنا أو لعذر قاهر وقع على غير انتظار. ورغم أن هناك من حاولوا انتهاز الفرصة، خصوصا مع بدء المنافسة بين الأهرام والأخبار -إلا أن الأسابيع والشهور والأعوام مضت وكل شيء كما ينبغي أن يكون. والحق أن غداء الثلاثاء أثبت فاعليته، فقد كان دومًا فرصة منظمة تزيل أية عوالق وتحول دون أي تراكمات. ص 74 

إذن كان الثلاثاء لهيكل، أما الأربعاء لرجال المخابرات الأمريكية.



 

السادات-عبد الناصر-هيكل




منصب آخر اعتذر عن قبوله أربع مرات، في السنوات 56، 58، 61، 67 على التوالي، بنفس الحجة التي رفض بها الجمع بين رئاسة مجلس إدارة دار أخبار اليوم إلى جانب دار الأهرام (أي أن يصبح المنصب كمركز قوة) ويمكن لنا أن نتخيل الأمر مع ما حدث: جميع المناصب التي عرفت طريقها إلى السيد محمد حسنين هيكل "الممانع" يقبل في الأخير لسبب أو لآخر. وهذه المرة نزولا على رغبة عبد الناصر. فجمع بين رئاسة مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم ووزارة الإرشاد. 

 

يقرر هيكل بعد أن أصبح مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم تحت رئاسته، "أنه لم يكن مستريحًا" لأنه تركيز للقوة الصحفية في يد واحدة. وتضارب المصالح بين دارين صحفيتين تصدر كل منهما جريدة يومية تنافس الأخرى. ص261 لكنه ليس غريبًا على هيكل الذي كان بنفسه قد أسس لتلك العلاقة عند رئاسته تحرير الأهرام وآخر ساعة وغداءات الثلاثاء.

يقول: لم يكن أمامي سبيل إلى حل الإشكالية الأولى، وهي الإشراف على صحف درا أخبار اليوم إلى جانب صحف دار الأهرام، الإشكالية الثانية: تضارب المصالح بين دارين تصدر كل منهما جريدة يومية تنافس الأخرى.
ويمكن اختصار الإشكاليتين الأولى والثانية: في تركز القوة في يد واحدة وتضارب المصالح ترتيبا على الأولى.

 لماذا؟ وما هي المحاور والأبعاد؟. وكيف تمكن من حل تلك التشعبات، وتضارب المصالح وتركز القوة؟ ألم يكن قانون "هيئة الصحافة العربية المتحدة" هو من مقترحات هيكل بالأساس؟ هل كانت مهمة رئاسة مجلس إدارة دار الأخبار إلى جانب الأهرام وتسهيل سفر على أمين إلى لندن تمهيدًا "لاتهام علي أمين" وبذا تتم سيطرة "النظام" على الصحافة من خلال الرأس "المحاور والمناقش" والمنفّذ؟!


ويمكن أن نتوقف مرة أخرى عند مقولة الأستاذ ناصر النشاشيبي: وفي كل مرة كنت التقي فيها بهيكل كنت أضيع معه وسط ألف علامة استفهام وألف سؤال وألف فزورة وكلها تدور حول هيكل أو تتعلق به في حاضره الخطر أو ماضيه السر. 

 

وهكذا ليس بالخبز -ولا بالقلم- وحده يحيا الإنسان، وقد عاش هيكل بالقلم وغير القلم معًا. 

 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة زينب لأحمد الطحان.

كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.