بين الصحافة والسياسة: محمد حسنين هيكل.
![]() |
| الأخوين مصطفى وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل |
بين الصحافة والسياسة: قضية مصطفى أمين نموذجًا.
يتعرض الأستاذ محمد حسنين هيكل في الكتاب، (في نسخته الصادرة عام 1985 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، لواحدة -على حد قوله- من أغرب القصص في علاقة السياسة بالصحافة قي مصر. بعد ما يقرب من عشرين عامًا، يقدم لنا الأستاذ هيكل لمحة على امتداد الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية -منتصف الأربعينات- إلى أعقاب حرب أكتوبر- منتصف السبعينات- وأمام تلك الخلفية الواسعة شخصية جمال عبد الناصر.. أما الأسباب التي دفعته "ألحت" لإصدار الكتاب، من بينها عامل الزمن والسنين، والمناخ العام: إذ بدأت عليه أمارات صحوة، فأخيرًا هناك محاولة للبحث عن الحقيقة (؟) ورغم أن الكتاب موجه للأجيال اللاحقة على الحدث والتي لن يكون في وسعها -من خلال الكتاب- إلا مطالعة سردية هيكل، فإنه يمضي بقلمه وذاكرته -التي يريد لها أن تبدو فذة-لتواكب سرداب وثائقه- ليبهرنا بحكايته متشعبة الأطراف، بينما يمسك بجميع خيوطها ويحركها أنى شاء. وهكذا مشددًا على خطورة العلاقة بين السياسة والصحافة، فهي معقدة في كل الدنيا، وأكثر تعقيدًا خصوصًا في بلدان عالمنا "الثالث" اص7 ويسأل بعدم اكتراث: هل القصة التي ركزت عليها معظم فصول الكتاب هي "الوحيدة" من نوعها والفريدة في بابها؟ وجواب هيكل بالنفي طبعًا، فهناك قصصًا كثيرة ربما تستحق العودة إليها ذات يوم، ويعدد هيكل -كعادته- الأسباب التي دفعته للوقوف عند تلك القصة بالتحديد.
بعد مقدمة الكتاب ينتقل إلى مقدمة أطول وأكثر عرضًا، ومرة أخرى للوضع السياسي العالمي ومصر بعد الحرب العالمية الثانية وانزواء امبراطوريات وظهور غيرها على السطح: أمريكا والاتحاد السوفيتي "القوى العظميين". وبعد تجربته الصحفية مع "الإجيبشان جازيت" كمراسل حربي، وانتقاله إلى "أخبار آخر ساعة "الوفدية"، الوقت الذي واكب صدور "أخبار اليوم" -ومؤسسيها الأخوين مصطفى وعلي أمين- المناهضة للوفد، أو "المدفعية الثقيلة" الموجهة إلى الوفد تدك مواقعه دكًا عنيفًا صباح كل سبت ص30.
يذكر لنا هيكل قصة التحاقه بمؤسسة أخبار اليوم ربيع عام 1946، بعد قرار من محمد التابعي رئيس تحرير آخر ساعة ببيعها إلى الأخوين أمين واصرارهما على الإبقاء على أربعة من طاقم آخر ساعة هم: التابعي، هيكل، صاروخان رسام الكاريكاتور، والدكتور سعيد عبده. يعترض هيكل ليس على قرار بيع الجريدة باعتباره تحصيل حاصل، نظرًا لظروف المجلة ولضائقة التابعي المالية، ولكن تعليق هيكل كان على طريقة انتقال ملكية الجريدة مع بعض موظفيها، كما لو كان "الأشخاص" من الممتلكات أو "الأشياء". في الوقت الذي يلقي عرضًا آخر من درا الهلال، لرئاسة تحرير مجلة الإثنين (مجلة سياسية تصدرها دار الهلال) وبعد استفاضة اسطورية -هيكلية بالأساس- يقبل عرض "القِنَانة" بعد معالجة تصوره الخاطئ، بالمدى الواسع لتعلق التابعي وعلي أمين وتمسكهما به. ربما كانت تلك المرة الأولى التي يخبرنا فيها هيكل بالعروض الوظيفية والمناصب التي سيتلقاها خلال رحلته ويرفضها مبدأيً ومن ثم وبعد "ممانعة" ورغم تحفظاته الأخلاقية أو المهنية أو السياسية، التي يستفيض في شرحها، وهكذا وبشعور الذي كأنما لا يسعه سوى الفعل، أو ما يقرره بنفسه، كما لو كانت قفزة إلى المجهول في الأخير يقبل. حسنًا إنها الأولى ولن تكون الأخيرة.
منذ البداية ينطلق الصحفي المخضرم في سرد الوقائع والأحداث مقدمًا أحداها على الأخرى، بغير التفات، كل الأمور غير جوهرية المهم "المقصد، الغرض، النتيجة". وبين نقطة وأخرى يلقي تلميحًا أو تصريحًا أو تجريحًا أو طأطأة متواضعة -ظاهرية- أو توقفًا محتارًا، أو شعورًا بعدم الراحة، ولكنه يكمل بدأب وتؤدة، بحرارة بالغة وصدق داخلي منقطع النظير. إشارات ربما بالعمالة أو بالفساد.
كان ارتباط هيكل بالأخوين "مثار إعجاب، ربما حسد الكثيرين من معاصريه" لكنه يميز في كتاباته "علي" وتعلق كل منهما بالآخر، أمام توأمه لم تكن البداية معه كما كانت مع الأستاذ علي أمين، ففي بداية التحاقه بأخبار آخر ساعة يشير إلى طبيعة الأمور والاحتكاكات التي يلقاها الوافد الجديد. لكن مع الوقت تتحول الاحتكاكات والاختلافات إلى أكثر من صداقة ولكن كل شيء بأوانه، ويبدو أن الأستاذ هيكل لم يستطع حسم خلافه مع مصطفى أمين أو أن يستولي على رأسه على حد تعبير بلال فضل، أو أنه لم يرتح لجلوسه في المكتب، أو اعتراضا على ما كان يصدر في أخبار اليوم في الوقت الذي يُنشر نقيضه في آخر ساعة. وبناء عليه قرر تغيير اتجاهه. يقول "بدت لي التغطية الإخبارية في السياسة المحلية جهدًا عقيمًا، وفكرت أن أعود إلى التغطية الصحفية" ص40 زامن ذلك انتشار وباء الكوليرا في مصر، فكتب مجموعة تحقيقات "لفتت أنظار الكثيرين في مصر" فاز بعدها بجائزة فاروق الأول للصحافة العربية. وبناء على رغبته فتح له علي أمين باب التحقيق الصحفي خارج حدود مصر: فمن الحرب الأهلية في اليونان، إلى حرب فلسطين، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا، الأردن ثم إلى ثورة مصدق في إيران وينتقل إلى افريقيا وتغطية حرب كوربا وحرب الهند الصينية، وبعد خمس سنوات من التجوال حصل خلالها على جائزة فاروق الأول للصحافة ثلاث مرات قرر -بتواضع- ألا يتقدم للجائزة مرة أخرى تاركًا المجال لغيره.
لا يذكر الأستاذ هيكل هنا أية تواريخ محددة، فأي عام ترك العمل في المكتب كمحرر؟ وأي عام انتقل إلى مساعد ورئيس تحرير؟ لكنه يذكر بعد أن عاد من فلسطين عرض الأستاذين مصطفى وعلي أمين رئاسة تحرير آخر ساعة وأضافا إليها منصب مساعد تحرير أخبار اليوم. أي أن ذلك كان في أواخر 1948 أو بدايات 1950 على أقصى تقدير لكنه لا يعين تاريخًا.
بعد أربع سنوات صدر كتاب بعنوان "ثورة يوليو والصحافة" للأستاذ رشاد كامل، من عدة فصول وكل فصل يمثل شهادة أحد الصحفيين الكبار، وبعد مقدمة ألمح فيها إلى دور الأستاذ هيكل في قانون تأميم الصحافة، يأتي أول فصل في الكتاب عن الأستاذ مصطفى أمين، يليه فصل الأستاذ هيكل بعنوان: (أنا وعبد الناصر صداقة الحظ والشرف)، يستشهد الأستاذ رشاد بسطور كتبها لأستاذ على أمين في 18 يونيو1952، ونشرت في مجلة "آخر ساعة" يمتدح فيها الأستاذ هيكل (الباحث عن المتاعب)، ويكلل مجهوده في العامين الماضيين، كمساعد لرئيس تحرير آخر ساعة. ويعلن استقالته -على أمين- في تاريخ صدور المقال وتعيين الأستاذ هيكل بدلا منه. يكمل الأستاذ رشاد مقتبسًا من كتاب ملفات السويس ص197 للأستاذ هيكل، "سنة 1950 زارني "جمال عبد الناصر" في مكتبي في آخر ساعة وكنت رئيسًا لتحريرها وراح يناقش معي ما يجرى في سوريا. متوقفًا عند التباين الواضح ما ذكره هيكل عن توليه رئاسة التحرير في كتابه وبين مقال علي أمين.
يكمل هيكل تقديمه للأحداث وصولًا إلى أحداث حريق القاهرة، حيث يقابل البكباشي جمال عبد الناصر، يقول هيكل ص42 التقيته أول مرة في عراق المنشية أيام حرب فلسطين، لقد قرأت أكثر من مرة نفس المعلومة ويرددها الأستاذ هيكل دومًا، وفي ذلك مفارقة غريبة، يذكرها: رشاد كامل. فمن حوار أجراه الأستاذ سليم اللوزي مع الأستاذ هيكل لمجلة الحوادث 25 يونيو 1982، يقول هيكل بنبرة غاضبة نوعًا ما: "لم أكن أعرفه إلا قبل 3 أو 4 أيام من قبل قيام ثورة يوليو، لم أكن أقرب الناس إليه، كان هناك غيري أقرب".
لكن إلى جانب ذلك يعرض بأمانة أقوال ممتدحيه جنبًا إلى جنب مع "الاتهامات" الموجهة لهيكل، في الفصل نفسه وفي فصول أخرى. يحدد الأستاذ رشاد واقعتين يسرد فيهما هيكل لقاءه بعبد الناصر: الأولى يوم حريق القاهرة 26 يناير 1952 والثانية في بيت محمد نجيب يوم 18 يوليو 1952. يكمل الأستاذ رشاد فكرته موضحًا تباين سردية هيكل مع شهادات الصحفيين للأستاذ رشاد. إلى جانب ذلك يتطرق لعلاقة هيكل بالثورة ومدى استفادة هيكل من تلك الصلة الوثيقة.
ينتهي تحقيق الأستاذ رشاد إلى: التشكيك في رواية الأستاذ هيكل للأحداث. ويطرح في نهاية الفصل تساؤلا: كيف يمكن للكاتب الصحفي أن يروي الواقعة الواحدة بأكثر من طريقة وأكثر من شكل ويضيف وقائع ويحذف وقائع؟! وينسى أسماء.. ويخترع مواقف وأحداثًا ص 40 إلى هنا ينتهي الفصل ويبقى السؤال معلقًا بعد ذلك في 2004 سيعيد نشر الكتاب تحت عنوان: "الصحافة والثورة - ذكريات ومذكرات" محذوف منه فصل الأستاذ هيكل.
الأمر هنا ليس الاختلاف الناتج عن تعدد الرواية في كل مرة عن نفس الحدث، أو ما قاله اتهام الأستاذ موسى صبر الموجه لهيكل، وبرغم أن الأستاذ رشاد ساق من الأدلة محاولا اثبات التناقض في سرد هيكل لحواديته. إلا أنه بتساؤله الأخير يريد أن يرد للأستاذ هيكل نفس التساؤل الذي طرحه هيكل في كتابه بين الصحافة والسياسة عندما أعلن عن صدمته في الأستاذ مصطفى أمين بعد سماع الشرائط المسجلة ووقائع قضية الأستاذ مصطفى أمين في مكتب سامي شرف، وقراءته بعد ذلك لاعترافاته المكتوبة بخط اليد والموجهة للرئيس جمال عبد الناصر مستشهدًا باشتراك هيكل معه في بعض المهمات الموكلة لهما من جمال عبد الناصر.
وبطريقة شبه سينمائية يقول هيكل ص: 249
"كان الأستاذ مصطفى أمين يروي قصة، ثم يعود في اليوم التالي ليرويها وقد اختلف فيها تفصيل واحد. ثم يعود بعد أسبوع ليرويها وقد اختلف تفصيلان، وتتحول المتوالية الحسابية إلى متوالية هندسية، وتفقد القصة في آخر طبعة منها علاقتها بالطبعة الأولى.. لكن كثرة التكرار تولد نوعًا من الاقتناع الحقيقي لدى صاحبه بأن ما يقوله هو صدق: كذلك يخيل إليه. وهكذا.. فإنه في رسالته -لم يكن يظن أنه يكذب- وإنما كان يقول ما يتصور هو أنه صحيح بصرف النظر عن الحقيقة"
ذلك ما كان يريد أن يقوله الأستاذ رشاد، غير أن الكذب ليس كالتخابر بكل حال من الأحوال، إلا إن كان الأستاذ مصطفى ضحية من ضحايا عبد الناصر أو هيكل! وهو ما لم يذكره الأستاذ رشاد وفي فصل الأستاذ مصطفى أمين سرد لنا وقائع سجنه عند قيام الثورة وخروجه بعد 73 ساعة، وفي نهاية الفصل اكتفى فقط بالإشارة إلى قضية التخابر (متعجبًا) ولم يدخل في تفاصيل القضية.
ويمكن أن نتوقف هنا مع ما ورد في كتاب: حضرات الزملاء المحترمين لناصر الدين النشاشيبي صديق هيكل: وفي كل مرة كنت التقي فيها بهيكل كنت أضيع معه وسط ألف علامة استفهام وألف سؤال وألف فزورة وكلها تدور حول هيكل أو تتعلق به في حاضره الخطر أو ماضيه السر. ص153




تعليقات
إرسال تعليق