كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.
(كائن لا تحتمل خفته: أكثر من مجرد حكاية؛ أقل من مجرد رأي أو مراجعة)
لأول وهلة قد يغتم البعض من كتابة مراجعة فيها شئ من الإستحسان لهذه الرواية. لكن، لنكن منصفين، على الأقل، بعض الإنصاف، فإما أن نقول أن الرواية "لا تفسر وليس عليها أن تفسر" كما هو رأي غاليانو. بعد الإنتهاء من الرواية، من المحتمل أن يرسخ في ذهنك أنه ليس هناك معنى للرواية فتبادر نفسك بالقول: إذا لم أصل إلى المعنى فهذا لأن الرواية ليس لها معنى. في النهاية، قد تكون محق. لأنه لفهم حكاية ما أنت في حاجة لأمرين: إلى حكاية، وإلى معنى. ولكن، وبما أن الحال هكذا دائمًا مع الأشياء الغامضة بالنسبة لنا، فكل الأمور التي لم نفهمها قلنا عنها أنها: "غير ذات بال، فلا قيمة لها" هكذا الإنسان دائمًا يبدى غطرسته أمام جهله وأمام المجهول. لكن، لنحاول أن نتفهم الحكاية، وذلك حسب ما أراد كاتبها، ثم نقول فيها رأيا.ً
حسناً، الآن، من دون أي مقدمات أقول:
(1)
من فكرة ما، تنبثق الحياة، والأشخاص، أيضاً، تولد حكاية كاملة، بالفعل إنها تكون. ففي البدء دائما فكرة. تدور الأحداث في رأس كاتبها، تنقر، مثل الفرخ كِلْس بيضته، ثم تولد، تخرج للوجود بفعل الكتابة، أحداثاً، وأشخاصاً، سريعاً ما يكبرون. بالتفكير الجيد، نعود إلى الوراء، ودائماً إلى البدايات. إن كل فن منشأة الخلق، والرواية فن، إنهم يوجدون إذن هكذا، كباراً، بفعل الخلق.
إن الكاتب "يعزف، على إيقاع الكمان، لحناً، ناعماً، هادئاً، حزين" فكرة، وسؤال: أليس من ذلك بد؟ فالكمان يَشْرَقُ، يَشْهقُ ثم يَجهَشُ بالبكاء كلما مس الوتر عصا القدر. ويجيب: "ليس من ذلك بد. ليس من ذلك بد."
نعود لفكرة الخلق. هل الحياة تماشيًا مع ما قاله ساراماجو: لا تبدأ عندما يولد الأشخاص؟ يقول ساراماجو: الحياة تبدأ بعد ذلك، وكثيراً ما تبدأ متأخرة جداً، دون حساب تلك التي ما تكاد تبدأ حتى تنتهي. (هل الحياة تنتهي بالولادة؟) لهذا السبب صرخ الآخر، "آه، من يكتب حكاية ما كان يجب أن يكون".
حسنٌ جداً، المرء عندما يبدأ في التفكير، يحاول العقل من خلال طريقة تكاد تكون عشوائية ربط الأشياء ببعضها، بالرغم من ذلك قد يصادف أن يصيب في بعض المرات. لكن، علينا أن نعلم تماماً. وذلك أنه أتى لنا عن طريق الخبرة حيث أَنَّى لنا أن نعرف ذلك. أن الكائن ما أن يحس بالحياة، ما ينفك يشعر بوطأة الوجود وثقله؛ و للتحرر من الثقل، ثقل الوجود، يبحث عن الخفة.
يحلق، عالياً.. عالياً. "بخفَّةِ خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح." يحلق، عالياً.. عالياً. "بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء الانطلاق" يحلق، عالياً جداً فوق النجوم فيصيبه الدوار. لكن، ما هو الدوار؟ إنه السحر الأخاذ، الإنطلاق نحو المجهول، إنه صوت القيثارة في الفراغ. يجذبنا كما الفراشات نحو الضوء. أنحترق، نصبح نثاراً ونتلاشى؟ حينما تحلق فى الفضاء لا يمكنك العودة للوراء. لا يمكنك النظر لأسفل فيما بعد فتصاب بالذعر. إنه داء، لا يمكن، ولا يرجى الشفاء منه، ف داء الحالمين دواؤه مر. من يحلم بالعلو عليه أن يهيئ نفسه دوماً للسقوط الحر.
(2)
(التحرر من الكلمات)
وبرغم كل شئ نرغب في العلو. يخيّلُ إليَّ أو هكذا أرى أحياناً، أن "الكتابة ترف" كما يظن كركيغارد. نعم، للكتابة طابعاً جماليّ، أو كماليّ؛ ففي اللحظة التي نكتب فيها "لحظة الكتابة" نمسك بالقلم، في حضرة الرق، المُسَطَّر، ننسى ذواتنا، فنكتب. كل ما يتوارد على الذهن، تنصاع له الأنامل، تخطه، سن القلم يخمش الورقة برفق، تغمرنا الكلمات، تغرقنا، للدرجة التي لا تجعلنا معها قادرين عن التوقف. نعم، إنه شعور بالمتعة. كالعزف المتسارع على الكمان.
تحملنا الرغبة في "الفعل الكتابي" إلى التأني في "الفعل" لنصل إلى المزاج المنشود، كي نتشبع بالإثارة. فالفضاء المخصص للنص، كالجسد. نبحث عن أقل عدد من المفردات التي تصيب المعنى مباشرة. وأرمى المعنى بحجر فتسقط كل الفراشات عن الشجر! ننتقل من الفقرات إلى الجمل القصيرة ثم إلى الكلمات.. كلمة واحدة، عذبة ورقراقة، تشف عما وراءها من سحر.
لكن، الحال دائماً أن الجميع يكتب بلا توقف. عَبَثٌ وصَخَب. صَخَبٌ وعَبَث. فوضى من المقولات. لا تدري أيها صحيح أيها خطأ. الكتابة تصبح في وقت من الأوقات ضجيجاً.. أي شيئاً زائداً جداً عن الحد. بحر من الكلمات. من يلج يغرق. لكن، لندع هذا الكلام.
الآن، وفي الأخير، بعد بلوغ الذروة، واكتمال الإهتياج، يزول الشوق. لا يصبح للكلمات معنى. تبحث عن الراحة. بالفعل، ترغب في النوم. "كما لو كان العالم على وشك الإغماء والعزلة" هل العالم حلم؟ تريد أن تضع سلسلة نقاط لا نهائية موشاة بنقطة خالدة.
رغبة فى الصمت. هل الصمت يخفّف الثقل؟ لا أحد يعرف! "للصمت صوت يسمع، ذبذبة نهاية الصدى، ربما هذا ليس سوى رجع ضربات الأمواج البعيدة على الجروف، إنه أفضل تفسير، صدى ضربات الأمواج يظل يتردد حتى داخل القواقع" لكنه، بطول المدى، الذي يصل إليه، يظل صدى، إذن صوت.
والحال هذه ما الذي يقوم مقامه-الصوت؟ الموسيقى؟ "الموسيقى هي نفي للجمل، هي ضد - كلمة!" عناق طويل... للحبيب، سُكُونٌ أو سكينة. هل نغمض أعيننا بحثاً عن الخلود؟ " نعم، من يفتش عن اللانهاية، ما عليه إلا أن يغمض عينيه" مستسلماً ومسلماً، نفسه للغرق.. "تأملاً في الذات" إنه "نوم عميق" تجلى لمعنى الخلود.
نعرف من ذلك أن: الكلمات =》 ثقل. الموسيقى =》 خفة.
ثنائيات:
الوجود/العدم. الظل/الحرور. الحياة/الموت. الحب/الكراهية. الوفاء/الخيانة. الأنا/الآخر، الأنانية/الغيرية، الأنا الأعلى/الأنا الأدنى، الفرد الأعلى/الفرد الأدنى، الذكر/الأنثى. الضعف/القوة. الخفة/الثقل. الشيوعية/الديموقراطية، التماثل/التفرد، الحتمية/الحرية. هرقليطس/بارمينيدس. الحركة/ السكون. الجسد/الروح. السماوي/الأرضي.
بالإمكان صياغة ثنائيات كثيرة جداً. لكن، سيظل سؤال يطرح نفسه بشدة: أي من الأضداد يصلح أو يبقى؟ الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقاً بعيداً عن الأرض وعن الكائن الأرضي. يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرة بقدر ما هي تافهة. في الحقيقة إن اختيار طرفا من الثنائية هو بمعنى من المعاني القضاء على الثاني. وإذن، نحن أمام حالة شديدة جداً من التطرف. يمكن تفهم "أنا" في مقابل "الآخر" بمعنى أنا والآخر. لكن، أن يكون الأمر إما أنا أو الآخر، سنجد أنفسنا أمام مشهد لصراع حيواني فج. ما الذي يجمع بين الثنائيات المتناظرة؟
هناك مثالا يمكن أن نسوقه على ذلك وليكن عن "هرقليطس" و "بارمنيدس" بما أنهما محور ارتكاز للكاتب. وهما أيضا طرفي نقيض وهذا رأيهما في الكون كما ذكره برتراند رسل: "إن هرقليطس يذهب إلى أن كل شئ يتغير؛ فيرد عليه بارمنيدس قائلا: ألا شئ قط يتغير." إن لهرقليطس رأي تصالحي بعض الشئ لأنه يعني بإنسجام الأضداد أو امتزاجهما: "إن في العالم وحدة، ولكنها وحدة نتجت عن تباين." هل هي فكرة الوحدة ثنائية القطب التي ذهب إليها على عزت بيحوفيتش؟
لكن هذا لا يجيب على السؤال الأهم: ماذا ترانا نختار، الخفة أم الثقل؟ ذلك هو السؤال الذي طرحه بارمنيدس على نفسه. حسب رأيه، العالم منقسم إلى أزواج من الأضداد: النور-الظلمة؛ السميك-الرقيق؛ الحار_البارد؛ الكائن-اللاكائن. كان يعتبر أن أحد قطبي التناقض إيجابي (المنير، الحار، الرقيق، الكائن) والقطب الآخر سلبي. أيهما هو الإيجابي، الثقل أم الخفة؟
كان بارمنيدس يجيب: الخفيف هو الإيجابي والثقيل هو السلبي. هل كان محقاً أم لا؟ هذا هو السؤال. شئ واحد أكيد: النقيضان الثقيل-الخفيف هما الأكثر غموضاً والتباساً بين كل المتناقضات.
(3)
تبدو حياة توماس وتيريزا، فرانز وسابينا، برقتها وفجورها، بإنسانيتها ووحشيتها، بما تقبل وما ترفض... تدور حول فكرة أساسية: السيطرة. أو الأنا-نية!
فرانز وسابينا. مثال آخر للتناقض أو للثنائيات ففي الوقت الذي يرى فيه فرانز-الرجل القوي-أن التماثل مع المجموع والسير في رحاب المسيرة الكبرى هو الحل. ترى فيه سابينا أن التمايز والتفرد هو الحل. بالرغم من اختلافهما الظاهرى نجد أنهما يجتمعان في أمران الأول أنهما يبحثان عن الخفة. "خفة الكائن" وأمر آخر محسوس وهو أن كل منهما ينظر إلى حياة الآخر على أنها تشكل "لغز" هو الرجل "اللغز" هي المرأة "اللغز" كل شئ غير مفهوم ومعدوم المعنى. إذن والحال هكذا هما يحتاجان إلى منطق أعلى من المنطق المألوف لفهم حياتهما؟ يقع فرانز في حب سابينا التي تهجره لخفته. ويظل أسيرا لهواها.
لكن، الآن، نحن نعرف شيئا عن حياتهما، فبرغم كل التناقضات التي هي أمر طبيعي نتيجة للتردد الدائم، ولتباين وجهات النظر من خلال الكلمات الغير مفهومة، فهى مثل الأحاجي أو الألغاز. إن فرانز يحب والحب بالنسبة له "رغبة في الإستسلام لنية الآخر الطيبة ورأفته" فرانز كان يبحث عن الوفاء المطلق! وسابينا عن أي شئ كانت تبحث؟ عن الخفة أم الثقل؟ عن الخيانات المتلاحقة؟ ولأي شئ كان يحملها الحنين؟ أإلى توماس؟ الرجل الذي كانت تشعر بضعفها معه؟ الحقيقة أن كل من فرانز وسابينا كان يبحثان عن من يتحملهم أو من هو أقوى منهم. إن مأساة فرانز أنه كان يريد التحرر من ثقل العالم، عالم الزوجة والإبنة المفتعل، وذلك من خلال التماهي مع الجموع، والحب البرئ. أما مأساة سابينا ليست مأساة ثقل إنما مأساة خفة. والحمل الذي سقط فوقها لم يكن حملا بل كان خفة الكائن التي لا تحتمل. وكلاهما حائران يترردان في الإختيار بين الخفة والثقل؟
كما هو الحال مع البشر حياتهم مليئة بالتناقضات. تناقضات بالجملة. يمكن أن نلخصها ونلخص معها فصل الكلمات الغير مفهومة (في الرواية) في مقولة واحدة عن نيتشه لبرتراند رسل لأن الكاتب كان مثله مثل نيتشه: "كان مُولَعٌ أيضًا بالتعبير عن نفسه تعبيرًا متناقضًا قاصدًا أن يصدم القراء المتمسكين بالعرف."
وعلى الجانب الآخر فإننا نستطيع أن نقول عن توماس، أنه رجل يحبه نيتشه، فهو رجل لا يأبه لشئ ولا يهمه شئ سوى نفسه ومعاشرة النساء. الرجل الذي هجر زوجته وطفل له منها وأبوية ليعيش حياته كما يرغب يمكن أن نصفه بأنه: "صاحب إرادة نيتشوية"
توماس المتفرد لابد أن يرى الآخر = الأنثى وهي ضعيفة أو أدنى. كان يبحث في الأنثى عن ذلك الذي لا يمكن إدراكه. إنه بحث بمعنى ما، ميتافيزيقي، عن ما وراء الجسد، عن الروح التي اكتشفها فقط في "تيريزا" وفي نفس الوقت كان يبحث عن الكمال. هل ذلك ممكن؟
أو أنه كان يريد الإستحواذ على الأنا التى في الآخر. توماس كان يسكنه هاجس اكتشاف هذا الجزء.. "الغير مرئي" "المتعذر تصوره" والإستحواذ عليه. وهو الأمر الذي كان يشعره بأنه تمكن من الإستحواذ على جزء من العالم. لم تكن ذاكرته تسجل غير الممر الوعر للإستحواذ أو "الإمتلاك الجنسي" هكذا يحدد معنى هوسه بالنساء. ويدفعنا كونديرا بعيدًا عن تلك الفكرة قائلًا: أنه ليس مهووسًا بالنساء بل بما تملكه كل واحدة منهن من "المتعذر تصوره" "كان يرغب في الإستحواذ على شئ ما، دفينا في أعماقهن، شئ يجب أن تمزق في سبيله القشرة الخارجية" ولماذا كان يبحث عن ذلك "المتعذر تصوره" من خلال الجنس فقط؟ يجيب: إن الجنس يبدو دائما وكأنه الخزينة التي يختبئ في داخلها سر "الأنا" الأنثوية. لكن، هل هناك رغبة خفية مضمرة وراء "المتعذر تصوره" أو خلف الجنس، هي التي كانت تدفعه لمطاردة النساء؟ لم تكن الرغبة في المتعة الجنسية.. بل الرغبة في شرط جسد العالم المسجى بالمبضع!
"إن تفرد الأنا يكمن تحديدا في هذا الجزء من "المتعذر تصوره" الذي يملكه كل إنسان. ليس في الإمكان تخيل إلا ما هو مشترك بين الكائنات."
"أما الأنا الفردية التي تتميز عن ما هو عام، فهي تلك التي لا تدعنا نتكهن بها أو نحدسها. وهي أول ما يجب نزع الحجاب عنه لاكتشافه وامتلاكه لدى الآخر."
"أن يكون المرء جراحًا، فمعنى ذلك أن يشرط ظاهر الأشياء ليرى ما الذي يختبئ داخلها. ربما هذه الرغبة هي التي حدت بتوماس للذهاب لرؤية "ما وراء" "الذي ليس منه بد"."
محاولته مع المرأة التي تشبه طائر اللقلق أكبر دليل على ذلك. على رؤية الآخر ضعيفًا أو بمعنى: إذلال الآخر الأنثوي. إن الإستعارات خطيرة كما قال. وإن الحب يبدأ من استعارة. بالفعل إن المجاز خطير جدا. إن المجاز يعقر صاحبه أحيانا-كثيرة. وهذا ما حدث مع صاحبنا. إن بحثه الدؤوب، الدائم والمستمر، رغبته العارمة تلك ليست إلا مواربة لبلوغ الكمال المطلق. الكائن المتفرد. ورؤية الآخر-الأنثى، ذليلة، ضعيفة.
لكن، ما الذي حدث مع تيريزا هل صارت أناه الآخر في حياته المزدحمة بالنساء؟ تيريزا الراغبة في "الإرتقاء" هل ارتقت إلى عالم توماس أم سحبته لعالمها (لأسفل)؟ هل كان من حيث لا يدري يفقد نفسه تدريجياً مستسلما للآخر "تيريزا" هل كان واقعاً تحت نيرّ "الشفقة" التي كان يكنها لتيريزا؟ هل كان يشفق عليها فقط؟ إن الشفقة لا حب. نحن لا نعرف أننا نحب حين نحب. لأننا حين نقول أننا نحب فإنه لا حب. الحب لا قول. الحب لا فرق بيني وبينك. أنت أنت وأنا أنا لكنا نحب. الحب حادث. فلا نعرف. فقط نفاجئ بأنفسنا غارقين في البحر. هل وقع في ذلك الفخ المسمى "الشفقة" وأغوته بضعفها؟ أم أنه الحب؟ أجل، إنه الحب. الحب هو ما وراء "ما ليس منه بد".
(4)
هل الرواية 《فقط》 رؤية ذاتية للكاتب؟ هل الكاتب يتحدث عن ذاته فقط؟ ليس كل ما يكتبه الكاتب شخصي، ولا كل ما هو شخصي يكتب. تماماً كما هو الحال مع الظاهر والحقيقة. ليس كل مايظهر حقيقة، ولا كل ما هو حقيقة يظهر. لكن بين الحقيقة والظاهر (بين الكاتب وما يكتبه) توجد دائماً نقطة تفاهم، كأنما الحقيقة والظاهر (ما يكتبه الكاتب وذاته) مساحتان مسطحتان تلتقيان وتجتمعان (لأن الكاتب هو من يكتب دائماً) يوجد منحنى ما، واحتمال أن ينزلق المرء عليه، وإذا ما انزلق، يصل إلى نقطة التماس (تفاهم) مع الحقيقة ومع الظاهر في آن واحد. في تلك اللحظة نفهم الفرق!
إذا قرأت الرواية على أنها حياة كاتبها فأنت "ساذج" وإذا قرأتها على غير ذلك فأنت "حساس" بالمعنى الذي يقصده أورهان باموق. إقرأ: كأن الكاتب يريد أن يقول كأنك تقرأني وكأنك لا في نفس الوقت.
يقول كونديرا متدخلاً: ولكن، ألا يجرى التأكيد على أن الكاتب لا يسعه أن يتحدث إلا عن ذاته؟ ثم ينفي الفكرة قائلاً: أيا من هذه الشخصيات لا تتحدر من هذه الشخصية التي هي أنا والموجودة في بيان سيرتي. فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحق... فالرواية ليست اعترافاً ذاتياً للكاتب، وإنما تنقيب عما تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمى العالم. ولكن هذا يكفي. فلنعد إلى توماس.
ماذا كان يجدر به أن يفعل؟ هذا هو، سؤال الوجود. ماذا علي أن فعل؟ التوقيع أو عدمه؟ أيهما أفضل، الصراخ وتبجيل نهايتنا، أم السكوت والحوز على احتضار أكثر بطئاً؟ (الخفة أم الثقل؟)
يقول ميلان كونديرا: لا يُمكن للإنسان أبدًا أن يُدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنّه لا يملِك إلا حياةً واحِدة، و لا يسعُه مقارنتُها بحيواتٍ سابقة و لا إصلاحُها في حيواتٍ لاحِقة
إنّ الإنسان غالبا ما يعرف ”كيف“ يفعل في حياته لكنّه لا يعرف لأجل ”ماذا“ يجب عليه أن يفعل. ما أنا؟ ولماذا أنا موجود هنا؟ وماذا علي أن أفعل؟ ولأجل ماذا يجب علي أن أفعل؟ وما الغاية من ذلك؟ وإن فعلت هل سأكون سعيداً؟ الإنسان دائماً يجد نفسه في مواجهة مع اختياراته وكذا "توماس" بما أنه فكرة في رأس صاحبها، يقوم مقام أمنياته التي لم يحققها، يبحث بطريقة عقلية عن سبب أو مبرر، عن غاية، أو أنه يبحث عن الحرية المطلقة. أيوجد جواب واحد لكل هذه الأسئلة؟ أعتقد أن توماس يريد أن يقول: (لا أريد أن أفعل شئ من أجل شئ أريد أن أفعل شئ في مقابل لاشئ ومن أجل اللاشئ.. هكذا تتحدد اختياراته) لأنه يبحث عن غاية نهائية أوسع نطاقاً = أشمل، من مجرد واجبه الخلقي.. إنه يرنو نحو الخلود.
ومن جديد خطرت له الفكرة: الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السئ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة. لأنه لم تعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة.
ثم ساق مثالين من التاريخ التشيكي (ص224): في الأول دافع فيه التشيكيين عن حرياتهم الدينية وعلى إثر ذلك تعرضوا لهجمة شرسة وبدأت حرباً دامت ثلاثين عاماً. كان ذلك في 1618. الموقف الثاني كان بعد ثلاثمائة عام حينما قرر الشعب في موقف مخزي التخلي عن بلاده والإستسلام أمام قوات هتلر. ويتساءل ماذا كان عليهم أن يفعلوا؟
"العود الأبدي فكرة يكتنفها الغموض، وبها أربك نيتشه الكثير من الفلاسفة، أن تتصور أن كل شئ سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأن هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية! ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة؟"
في الحقيقة هم فعلوا وقضي الأمر. ففي المرة الأولى أظهروا الشجاعة وفي الثانية الخزي. وهذان مثالان على مسيرة الإنسان في الحياة. أيهما أفضل إذن أن يكون التشيكي شجاع وقد لا يحصل على شئ في المقابل أم يكون جباناً ويَرْزَح تحت وطأة الإنبطاح حاملاً ثقل الخزي والهزيمة.
بالفعل إن مرة واحدة لا تحسب مرة واحدة هي أبداً. لكن، هل يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية؟ لو كانت تكراراً لأصبحت مدعاة إلى الملل والسأم ولما كانت حياة. لو كانت تعاد بشكل مستمر لما كان للإنسان أي إرادة في الإختيار لأن التكرار محتوم والإنسان، الحياة، العالم، لن يكونا سوى نسخ مكرورة. ولن يقوى البشر على تغيير ما هو محتوم لأنها تدور وفقا لآلية، هذا إذا كانت تعاد مجدداً. تلك الرغبة في بلوغ الكمال (الخلود بصورة ضمنية، البقاء أبداً وعدم الفناء أو الموت) من خلال الترقي هي التي تدفع الإنسان إلى التمنى بأن تعود الحياة مرة بعد مرة..وهكذا. الأمر الذي لن يفضي إلا إلى شئ واحد وهو ال "يوتوبيا" إن البشر كائنات متماثلة وغير حرة أقرب ما يكون الشبة بالآلة في داخل اليوتوبيا. أم أنه البحث عن "مخلِّصٍ" ذلك "المتعالي" الفوق بشري، رجل نيتشه "الكامل"؟
إذا كانت الحياة مرة واحدة. موت يعقبه فناء. فهي بلا معنى. لكن، إذا كان الأمر غير ذلك، وهناك حلم بالعود، لكن، إلى المكان الأول "الجنة" فإن الحياة في هذه الحال جديرة بأن تعاش، لأنها هي كل شئ، ولا شئ في الوقت نفسه. لأنها هي كل ما لدينا، ولأننا نجهل تصاريف الكون، فإنه "من خلال العدل والبصيرة يمكن اسداء العون لتصاريف الزمن التي لن تتكشف للإنسان" ومن خلال التجربة والخطأ يمكن أن يعيش الإنسان ويغير في الحياة، ولأن الإنسان كائن حر. فإن الإنسان هو من يصنع التاريخ وليس العكس.
(5)
هل علينا-كقراء-أن نصدر أحكاما أخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبطال الرواية؟ هل علينا في نفس الوقت نقيّم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته؟ يرد أورهان باموق: "الأحكام الأخلاقية هي ورطة لا مفر منها في الرواية. دعونا لا ننسى أبدا أن الحصيلة الأفضل لفن الرواية ليس من خلال محاكمة الناس لكن من خلال فهمهم، ودعونا نتجنب التعرض للحكم من خلال منطقة الإدانة في عقلنا. عندما نقرأ رواية، ينبغي أن تكون الأخلاق جزءاً من المشهد، وليست شئ ينبع من أنفسنا ويستهدف أبطال الرواية." "لكي نستمد المتعة من الرواية علينا الإستمتاع بهجر الكلمات وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا. عندما نصور في مخيلتنا ما تقوله لنا الكلمات (ما تحاول أن تقوله لنا)، نحن القراء نكمل القصة."
وعن الكيتش:
إن مصطلح ال كيتش الذي تردد كثيراً له دلالات كثيرة جداً. أولاً هو يعني: الأعمال الفنية أو الأدبية ذات المستوى الهابط، وهي أعمال صيغت لإجتذاب الذوق الشعبي السائر. (يمكن قراءة مقال الثقافة الجماهيرية من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب. فهو يقرب المعنى. والهامش ص117)
وبما أن الكيتش يحمل في معناه، انعدام الذوق، القبح، أو اللا فن. فإن ذلك يتجلى في مشهد المسيرة الكبرى. (في الرواية) إن هوية الكيتش لا تتحدد من خلال استراتيجية سياسية بل من خلال صور واستعارات ولغة معينة.
كانت المسيرة الكبرى كيتشاً والديموقراطية الخادعة المتجسدة في أمريكا والعالم الغربي هى كيتشاً أيضا. ف "أوروبا قد سارت بالأمس ضد الإحتلال الأمريكي لفيتنام، واليوم تسير ضد الإحتلال الفيتنامي لكمبوديا. بالأمس تأييدا لإسرائيل واليوم من أجل الفلسطينيين، بلأمس من أجل كوبا وغدا ضد كوبا، ودائما ضد أميركا، وكل مرة ضد المجازر، وكل مرة لمجازر أخرى." وهكذا تتجلى مشاهد القبح في العالم وفقا للمصلحة فقط.
الشيوعية ذلك العالم الذي كانت تعيش بداخله تيريزا برغم أنه نظام متزمت إلا إنه نظام بلا أخلاق. وبالمثل الأنظمة الرأسمالية. شيوع الإباحية وانعدام الأخلاق. وشيوع المرأة هكذا لكل رجل. علينا أن نعترف بأن القبح الذي يدعو إلى النفور والإشمئزاز لم يكن عرضاً في الحكاية أو أنه كان ليد الصدفة. لقد كان على القارئ أن يعرف مدى القذارة التى كانت متمثلة آن ذاك لدرجة أن تشعر معها بالقيئ. وهو أجاد في ذلك بالضبط كما يجيد أحد الممثلين دوره في أحد الأعمال السينمائية. شخصية الشر *عادل أدهم مثلا* أو ساذجا، أبله *أحمد زكي في فيلم البريئ*.
النص، في أصله، لغز. إن هذا اللغز يناديني. والنص يختارني.. (كي استحث المعنى الكامن للظهور.) ويوجد الآخر دائماً، إنه المؤلف. (وبخلاف ما يقول بارث) بدلاً من أن يوجد ضائعاً في وسط النص. تجد الكاتب يتجلى بالظهور كثيراً معلناً عن تدخلاته الغريبة، ليفسر ما سبق أن قاله، بطريقة فجة، وبدلاً من أن يترك الكاتب للقارئ مهمة التأويل كان لا ينفك عن التدخل للتأويل مرة ومرات عديدة.
وفي الأخير أقتبس ساراماجو:
"إن كل إنسان يرى العالم من خلال ما تراه عيناه، والعينان تريان ما تريدان، العينان تجمعان اختلافات الدنيا وتصنعان منها العجائب. (حتى لو كانت من صنع الخيال)."
لكل منا رأي. وأحب أن أقول رأيي بطريقة أدبية.
اقتباس آخر لبيجوفيتش:
"في حقيقة الأمر كل شئ يمكن اكتشافه فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، إنه فقط من خلال هذه الذات نتصل باللانهائي، خلال الذات-ومن خلالها فحسب-نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نشترك معه في ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات يستحيل أن نشهد عالماً وراء الطبيعة. لأن كل شئ آخر بجانب ذات الإنسان هو وجود براني ظاهري."
ومع النهاية اسأل:
- هل ما حدث كان لا بد له أن يحدث؟
- لا صوت يهتف قائلاً: "لا أحد يعرف".
من الأسفل كان يتناهى إلى مسامعنا صدى خافت، لحناً، ناعماً، هادئاً، حزين، لعزف البيانو والكمان.
- لأنه لا بُد.. لا بُدَّ مما ليس منه بد!
المصادر:
أبناء الأيام. ادواردو غاليانو.
الروائي الساذج والحساس. أورهان باموق.
لذة النص. رولان بارث.
رواية المنور. جوزية ساراماجو.
الطوف الحجري. جوزية ساراماجو.
الأعمال الكاملة ل وديع سعادة الإقتباسات من نص "غُبار" و "نصُّ الغياب". وديع سعادة.
خوف ورعدة. سرن كركيغارد.
مديح الظل. جورج لويس بورخيس.
الدين في مجرد حدود العقل. كانط.
الإسلام بين الشرق والغرب. علي عزت بيجوفيتش.
كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.
تاريخ الفلسفة الغربية. برتراند رسل. الكتاب الأول (فصل هرقليطس و بارمنيدس) الكتاب الثالث (نيتشه).
لأول وهلة قد يغتم البعض من كتابة مراجعة فيها شئ من الإستحسان لهذه الرواية. لكن، لنكن منصفين، على الأقل، بعض الإنصاف، فإما أن نقول أن الرواية "لا تفسر وليس عليها أن تفسر" كما هو رأي غاليانو. بعد الإنتهاء من الرواية، من المحتمل أن يرسخ في ذهنك أنه ليس هناك معنى للرواية فتبادر نفسك بالقول: إذا لم أصل إلى المعنى فهذا لأن الرواية ليس لها معنى. في النهاية، قد تكون محق. لأنه لفهم حكاية ما أنت في حاجة لأمرين: إلى حكاية، وإلى معنى. ولكن، وبما أن الحال هكذا دائمًا مع الأشياء الغامضة بالنسبة لنا، فكل الأمور التي لم نفهمها قلنا عنها أنها: "غير ذات بال، فلا قيمة لها" هكذا الإنسان دائمًا يبدى غطرسته أمام جهله وأمام المجهول. لكن، لنحاول أن نتفهم الحكاية، وذلك حسب ما أراد كاتبها، ثم نقول فيها رأيا.ً
حسناً، الآن، من دون أي مقدمات أقول:
(1)
من فكرة ما، تنبثق الحياة، والأشخاص، أيضاً، تولد حكاية كاملة، بالفعل إنها تكون. ففي البدء دائما فكرة. تدور الأحداث في رأس كاتبها، تنقر، مثل الفرخ كِلْس بيضته، ثم تولد، تخرج للوجود بفعل الكتابة، أحداثاً، وأشخاصاً، سريعاً ما يكبرون. بالتفكير الجيد، نعود إلى الوراء، ودائماً إلى البدايات. إن كل فن منشأة الخلق، والرواية فن، إنهم يوجدون إذن هكذا، كباراً، بفعل الخلق.
إن الكاتب "يعزف، على إيقاع الكمان، لحناً، ناعماً، هادئاً، حزين" فكرة، وسؤال: أليس من ذلك بد؟ فالكمان يَشْرَقُ، يَشْهقُ ثم يَجهَشُ بالبكاء كلما مس الوتر عصا القدر. ويجيب: "ليس من ذلك بد. ليس من ذلك بد."
نعود لفكرة الخلق. هل الحياة تماشيًا مع ما قاله ساراماجو: لا تبدأ عندما يولد الأشخاص؟ يقول ساراماجو: الحياة تبدأ بعد ذلك، وكثيراً ما تبدأ متأخرة جداً، دون حساب تلك التي ما تكاد تبدأ حتى تنتهي. (هل الحياة تنتهي بالولادة؟) لهذا السبب صرخ الآخر، "آه، من يكتب حكاية ما كان يجب أن يكون".
حسنٌ جداً، المرء عندما يبدأ في التفكير، يحاول العقل من خلال طريقة تكاد تكون عشوائية ربط الأشياء ببعضها، بالرغم من ذلك قد يصادف أن يصيب في بعض المرات. لكن، علينا أن نعلم تماماً. وذلك أنه أتى لنا عن طريق الخبرة حيث أَنَّى لنا أن نعرف ذلك. أن الكائن ما أن يحس بالحياة، ما ينفك يشعر بوطأة الوجود وثقله؛ و للتحرر من الثقل، ثقل الوجود، يبحث عن الخفة.
يحلق، عالياً.. عالياً. "بخفَّةِ خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح." يحلق، عالياً.. عالياً. "بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء الانطلاق" يحلق، عالياً جداً فوق النجوم فيصيبه الدوار. لكن، ما هو الدوار؟ إنه السحر الأخاذ، الإنطلاق نحو المجهول، إنه صوت القيثارة في الفراغ. يجذبنا كما الفراشات نحو الضوء. أنحترق، نصبح نثاراً ونتلاشى؟ حينما تحلق فى الفضاء لا يمكنك العودة للوراء. لا يمكنك النظر لأسفل فيما بعد فتصاب بالذعر. إنه داء، لا يمكن، ولا يرجى الشفاء منه، ف داء الحالمين دواؤه مر. من يحلم بالعلو عليه أن يهيئ نفسه دوماً للسقوط الحر.
(2)
(التحرر من الكلمات)
وبرغم كل شئ نرغب في العلو. يخيّلُ إليَّ أو هكذا أرى أحياناً، أن "الكتابة ترف" كما يظن كركيغارد. نعم، للكتابة طابعاً جماليّ، أو كماليّ؛ ففي اللحظة التي نكتب فيها "لحظة الكتابة" نمسك بالقلم، في حضرة الرق، المُسَطَّر، ننسى ذواتنا، فنكتب. كل ما يتوارد على الذهن، تنصاع له الأنامل، تخطه، سن القلم يخمش الورقة برفق، تغمرنا الكلمات، تغرقنا، للدرجة التي لا تجعلنا معها قادرين عن التوقف. نعم، إنه شعور بالمتعة. كالعزف المتسارع على الكمان.
تحملنا الرغبة في "الفعل الكتابي" إلى التأني في "الفعل" لنصل إلى المزاج المنشود، كي نتشبع بالإثارة. فالفضاء المخصص للنص، كالجسد. نبحث عن أقل عدد من المفردات التي تصيب المعنى مباشرة. وأرمى المعنى بحجر فتسقط كل الفراشات عن الشجر! ننتقل من الفقرات إلى الجمل القصيرة ثم إلى الكلمات.. كلمة واحدة، عذبة ورقراقة، تشف عما وراءها من سحر.
لكن، الحال دائماً أن الجميع يكتب بلا توقف. عَبَثٌ وصَخَب. صَخَبٌ وعَبَث. فوضى من المقولات. لا تدري أيها صحيح أيها خطأ. الكتابة تصبح في وقت من الأوقات ضجيجاً.. أي شيئاً زائداً جداً عن الحد. بحر من الكلمات. من يلج يغرق. لكن، لندع هذا الكلام.
الآن، وفي الأخير، بعد بلوغ الذروة، واكتمال الإهتياج، يزول الشوق. لا يصبح للكلمات معنى. تبحث عن الراحة. بالفعل، ترغب في النوم. "كما لو كان العالم على وشك الإغماء والعزلة" هل العالم حلم؟ تريد أن تضع سلسلة نقاط لا نهائية موشاة بنقطة خالدة.
رغبة فى الصمت. هل الصمت يخفّف الثقل؟ لا أحد يعرف! "للصمت صوت يسمع، ذبذبة نهاية الصدى، ربما هذا ليس سوى رجع ضربات الأمواج البعيدة على الجروف، إنه أفضل تفسير، صدى ضربات الأمواج يظل يتردد حتى داخل القواقع" لكنه، بطول المدى، الذي يصل إليه، يظل صدى، إذن صوت.
والحال هذه ما الذي يقوم مقامه-الصوت؟ الموسيقى؟ "الموسيقى هي نفي للجمل، هي ضد - كلمة!" عناق طويل... للحبيب، سُكُونٌ أو سكينة. هل نغمض أعيننا بحثاً عن الخلود؟ " نعم، من يفتش عن اللانهاية، ما عليه إلا أن يغمض عينيه" مستسلماً ومسلماً، نفسه للغرق.. "تأملاً في الذات" إنه "نوم عميق" تجلى لمعنى الخلود.
نعرف من ذلك أن: الكلمات =》 ثقل. الموسيقى =》 خفة.
ثنائيات:
الوجود/العدم. الظل/الحرور. الحياة/الموت. الحب/الكراهية. الوفاء/الخيانة. الأنا/الآخر، الأنانية/الغيرية، الأنا الأعلى/الأنا الأدنى، الفرد الأعلى/الفرد الأدنى، الذكر/الأنثى. الضعف/القوة. الخفة/الثقل. الشيوعية/الديموقراطية، التماثل/التفرد، الحتمية/الحرية. هرقليطس/بارمينيدس. الحركة/ السكون. الجسد/الروح. السماوي/الأرضي.
بالإمكان صياغة ثنائيات كثيرة جداً. لكن، سيظل سؤال يطرح نفسه بشدة: أي من الأضداد يصلح أو يبقى؟ الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقاً بعيداً عن الأرض وعن الكائن الأرضي. يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرة بقدر ما هي تافهة. في الحقيقة إن اختيار طرفا من الثنائية هو بمعنى من المعاني القضاء على الثاني. وإذن، نحن أمام حالة شديدة جداً من التطرف. يمكن تفهم "أنا" في مقابل "الآخر" بمعنى أنا والآخر. لكن، أن يكون الأمر إما أنا أو الآخر، سنجد أنفسنا أمام مشهد لصراع حيواني فج. ما الذي يجمع بين الثنائيات المتناظرة؟
هناك مثالا يمكن أن نسوقه على ذلك وليكن عن "هرقليطس" و "بارمنيدس" بما أنهما محور ارتكاز للكاتب. وهما أيضا طرفي نقيض وهذا رأيهما في الكون كما ذكره برتراند رسل: "إن هرقليطس يذهب إلى أن كل شئ يتغير؛ فيرد عليه بارمنيدس قائلا: ألا شئ قط يتغير." إن لهرقليطس رأي تصالحي بعض الشئ لأنه يعني بإنسجام الأضداد أو امتزاجهما: "إن في العالم وحدة، ولكنها وحدة نتجت عن تباين." هل هي فكرة الوحدة ثنائية القطب التي ذهب إليها على عزت بيحوفيتش؟
لكن هذا لا يجيب على السؤال الأهم: ماذا ترانا نختار، الخفة أم الثقل؟ ذلك هو السؤال الذي طرحه بارمنيدس على نفسه. حسب رأيه، العالم منقسم إلى أزواج من الأضداد: النور-الظلمة؛ السميك-الرقيق؛ الحار_البارد؛ الكائن-اللاكائن. كان يعتبر أن أحد قطبي التناقض إيجابي (المنير، الحار، الرقيق، الكائن) والقطب الآخر سلبي. أيهما هو الإيجابي، الثقل أم الخفة؟
كان بارمنيدس يجيب: الخفيف هو الإيجابي والثقيل هو السلبي. هل كان محقاً أم لا؟ هذا هو السؤال. شئ واحد أكيد: النقيضان الثقيل-الخفيف هما الأكثر غموضاً والتباساً بين كل المتناقضات.
(3)
تبدو حياة توماس وتيريزا، فرانز وسابينا، برقتها وفجورها، بإنسانيتها ووحشيتها، بما تقبل وما ترفض... تدور حول فكرة أساسية: السيطرة. أو الأنا-نية!
فرانز وسابينا. مثال آخر للتناقض أو للثنائيات ففي الوقت الذي يرى فيه فرانز-الرجل القوي-أن التماثل مع المجموع والسير في رحاب المسيرة الكبرى هو الحل. ترى فيه سابينا أن التمايز والتفرد هو الحل. بالرغم من اختلافهما الظاهرى نجد أنهما يجتمعان في أمران الأول أنهما يبحثان عن الخفة. "خفة الكائن" وأمر آخر محسوس وهو أن كل منهما ينظر إلى حياة الآخر على أنها تشكل "لغز" هو الرجل "اللغز" هي المرأة "اللغز" كل شئ غير مفهوم ومعدوم المعنى. إذن والحال هكذا هما يحتاجان إلى منطق أعلى من المنطق المألوف لفهم حياتهما؟ يقع فرانز في حب سابينا التي تهجره لخفته. ويظل أسيرا لهواها.
لكن، الآن، نحن نعرف شيئا عن حياتهما، فبرغم كل التناقضات التي هي أمر طبيعي نتيجة للتردد الدائم، ولتباين وجهات النظر من خلال الكلمات الغير مفهومة، فهى مثل الأحاجي أو الألغاز. إن فرانز يحب والحب بالنسبة له "رغبة في الإستسلام لنية الآخر الطيبة ورأفته" فرانز كان يبحث عن الوفاء المطلق! وسابينا عن أي شئ كانت تبحث؟ عن الخفة أم الثقل؟ عن الخيانات المتلاحقة؟ ولأي شئ كان يحملها الحنين؟ أإلى توماس؟ الرجل الذي كانت تشعر بضعفها معه؟ الحقيقة أن كل من فرانز وسابينا كان يبحثان عن من يتحملهم أو من هو أقوى منهم. إن مأساة فرانز أنه كان يريد التحرر من ثقل العالم، عالم الزوجة والإبنة المفتعل، وذلك من خلال التماهي مع الجموع، والحب البرئ. أما مأساة سابينا ليست مأساة ثقل إنما مأساة خفة. والحمل الذي سقط فوقها لم يكن حملا بل كان خفة الكائن التي لا تحتمل. وكلاهما حائران يترردان في الإختيار بين الخفة والثقل؟
كما هو الحال مع البشر حياتهم مليئة بالتناقضات. تناقضات بالجملة. يمكن أن نلخصها ونلخص معها فصل الكلمات الغير مفهومة (في الرواية) في مقولة واحدة عن نيتشه لبرتراند رسل لأن الكاتب كان مثله مثل نيتشه: "كان مُولَعٌ أيضًا بالتعبير عن نفسه تعبيرًا متناقضًا قاصدًا أن يصدم القراء المتمسكين بالعرف."
وعلى الجانب الآخر فإننا نستطيع أن نقول عن توماس، أنه رجل يحبه نيتشه، فهو رجل لا يأبه لشئ ولا يهمه شئ سوى نفسه ومعاشرة النساء. الرجل الذي هجر زوجته وطفل له منها وأبوية ليعيش حياته كما يرغب يمكن أن نصفه بأنه: "صاحب إرادة نيتشوية"
توماس المتفرد لابد أن يرى الآخر = الأنثى وهي ضعيفة أو أدنى. كان يبحث في الأنثى عن ذلك الذي لا يمكن إدراكه. إنه بحث بمعنى ما، ميتافيزيقي، عن ما وراء الجسد، عن الروح التي اكتشفها فقط في "تيريزا" وفي نفس الوقت كان يبحث عن الكمال. هل ذلك ممكن؟
أو أنه كان يريد الإستحواذ على الأنا التى في الآخر. توماس كان يسكنه هاجس اكتشاف هذا الجزء.. "الغير مرئي" "المتعذر تصوره" والإستحواذ عليه. وهو الأمر الذي كان يشعره بأنه تمكن من الإستحواذ على جزء من العالم. لم تكن ذاكرته تسجل غير الممر الوعر للإستحواذ أو "الإمتلاك الجنسي" هكذا يحدد معنى هوسه بالنساء. ويدفعنا كونديرا بعيدًا عن تلك الفكرة قائلًا: أنه ليس مهووسًا بالنساء بل بما تملكه كل واحدة منهن من "المتعذر تصوره" "كان يرغب في الإستحواذ على شئ ما، دفينا في أعماقهن، شئ يجب أن تمزق في سبيله القشرة الخارجية" ولماذا كان يبحث عن ذلك "المتعذر تصوره" من خلال الجنس فقط؟ يجيب: إن الجنس يبدو دائما وكأنه الخزينة التي يختبئ في داخلها سر "الأنا" الأنثوية. لكن، هل هناك رغبة خفية مضمرة وراء "المتعذر تصوره" أو خلف الجنس، هي التي كانت تدفعه لمطاردة النساء؟ لم تكن الرغبة في المتعة الجنسية.. بل الرغبة في شرط جسد العالم المسجى بالمبضع!
"إن تفرد الأنا يكمن تحديدا في هذا الجزء من "المتعذر تصوره" الذي يملكه كل إنسان. ليس في الإمكان تخيل إلا ما هو مشترك بين الكائنات."
"أما الأنا الفردية التي تتميز عن ما هو عام، فهي تلك التي لا تدعنا نتكهن بها أو نحدسها. وهي أول ما يجب نزع الحجاب عنه لاكتشافه وامتلاكه لدى الآخر."
"أن يكون المرء جراحًا، فمعنى ذلك أن يشرط ظاهر الأشياء ليرى ما الذي يختبئ داخلها. ربما هذه الرغبة هي التي حدت بتوماس للذهاب لرؤية "ما وراء" "الذي ليس منه بد"."
محاولته مع المرأة التي تشبه طائر اللقلق أكبر دليل على ذلك. على رؤية الآخر ضعيفًا أو بمعنى: إذلال الآخر الأنثوي. إن الإستعارات خطيرة كما قال. وإن الحب يبدأ من استعارة. بالفعل إن المجاز خطير جدا. إن المجاز يعقر صاحبه أحيانا-كثيرة. وهذا ما حدث مع صاحبنا. إن بحثه الدؤوب، الدائم والمستمر، رغبته العارمة تلك ليست إلا مواربة لبلوغ الكمال المطلق. الكائن المتفرد. ورؤية الآخر-الأنثى، ذليلة، ضعيفة.
لكن، ما الذي حدث مع تيريزا هل صارت أناه الآخر في حياته المزدحمة بالنساء؟ تيريزا الراغبة في "الإرتقاء" هل ارتقت إلى عالم توماس أم سحبته لعالمها (لأسفل)؟ هل كان من حيث لا يدري يفقد نفسه تدريجياً مستسلما للآخر "تيريزا" هل كان واقعاً تحت نيرّ "الشفقة" التي كان يكنها لتيريزا؟ هل كان يشفق عليها فقط؟ إن الشفقة لا حب. نحن لا نعرف أننا نحب حين نحب. لأننا حين نقول أننا نحب فإنه لا حب. الحب لا قول. الحب لا فرق بيني وبينك. أنت أنت وأنا أنا لكنا نحب. الحب حادث. فلا نعرف. فقط نفاجئ بأنفسنا غارقين في البحر. هل وقع في ذلك الفخ المسمى "الشفقة" وأغوته بضعفها؟ أم أنه الحب؟ أجل، إنه الحب. الحب هو ما وراء "ما ليس منه بد".
(4)
هل الرواية 《فقط》 رؤية ذاتية للكاتب؟ هل الكاتب يتحدث عن ذاته فقط؟ ليس كل ما يكتبه الكاتب شخصي، ولا كل ما هو شخصي يكتب. تماماً كما هو الحال مع الظاهر والحقيقة. ليس كل مايظهر حقيقة، ولا كل ما هو حقيقة يظهر. لكن بين الحقيقة والظاهر (بين الكاتب وما يكتبه) توجد دائماً نقطة تفاهم، كأنما الحقيقة والظاهر (ما يكتبه الكاتب وذاته) مساحتان مسطحتان تلتقيان وتجتمعان (لأن الكاتب هو من يكتب دائماً) يوجد منحنى ما، واحتمال أن ينزلق المرء عليه، وإذا ما انزلق، يصل إلى نقطة التماس (تفاهم) مع الحقيقة ومع الظاهر في آن واحد. في تلك اللحظة نفهم الفرق!
إذا قرأت الرواية على أنها حياة كاتبها فأنت "ساذج" وإذا قرأتها على غير ذلك فأنت "حساس" بالمعنى الذي يقصده أورهان باموق. إقرأ: كأن الكاتب يريد أن يقول كأنك تقرأني وكأنك لا في نفس الوقت.
يقول كونديرا متدخلاً: ولكن، ألا يجرى التأكيد على أن الكاتب لا يسعه أن يتحدث إلا عن ذاته؟ ثم ينفي الفكرة قائلاً: أيا من هذه الشخصيات لا تتحدر من هذه الشخصية التي هي أنا والموجودة في بيان سيرتي. فشخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحق... فالرواية ليست اعترافاً ذاتياً للكاتب، وإنما تنقيب عما تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمى العالم. ولكن هذا يكفي. فلنعد إلى توماس.
ماذا كان يجدر به أن يفعل؟ هذا هو، سؤال الوجود. ماذا علي أن فعل؟ التوقيع أو عدمه؟ أيهما أفضل، الصراخ وتبجيل نهايتنا، أم السكوت والحوز على احتضار أكثر بطئاً؟ (الخفة أم الثقل؟)
يقول ميلان كونديرا: لا يُمكن للإنسان أبدًا أن يُدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنّه لا يملِك إلا حياةً واحِدة، و لا يسعُه مقارنتُها بحيواتٍ سابقة و لا إصلاحُها في حيواتٍ لاحِقة
إنّ الإنسان غالبا ما يعرف ”كيف“ يفعل في حياته لكنّه لا يعرف لأجل ”ماذا“ يجب عليه أن يفعل. ما أنا؟ ولماذا أنا موجود هنا؟ وماذا علي أن أفعل؟ ولأجل ماذا يجب علي أن أفعل؟ وما الغاية من ذلك؟ وإن فعلت هل سأكون سعيداً؟ الإنسان دائماً يجد نفسه في مواجهة مع اختياراته وكذا "توماس" بما أنه فكرة في رأس صاحبها، يقوم مقام أمنياته التي لم يحققها، يبحث بطريقة عقلية عن سبب أو مبرر، عن غاية، أو أنه يبحث عن الحرية المطلقة. أيوجد جواب واحد لكل هذه الأسئلة؟ أعتقد أن توماس يريد أن يقول: (لا أريد أن أفعل شئ من أجل شئ أريد أن أفعل شئ في مقابل لاشئ ومن أجل اللاشئ.. هكذا تتحدد اختياراته) لأنه يبحث عن غاية نهائية أوسع نطاقاً = أشمل، من مجرد واجبه الخلقي.. إنه يرنو نحو الخلود.
ومن جديد خطرت له الفكرة: الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السئ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة. لأنه لم تعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة.
ثم ساق مثالين من التاريخ التشيكي (ص224): في الأول دافع فيه التشيكيين عن حرياتهم الدينية وعلى إثر ذلك تعرضوا لهجمة شرسة وبدأت حرباً دامت ثلاثين عاماً. كان ذلك في 1618. الموقف الثاني كان بعد ثلاثمائة عام حينما قرر الشعب في موقف مخزي التخلي عن بلاده والإستسلام أمام قوات هتلر. ويتساءل ماذا كان عليهم أن يفعلوا؟
"العود الأبدي فكرة يكتنفها الغموض، وبها أربك نيتشه الكثير من الفلاسفة، أن تتصور أن كل شئ سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، وأن هذا التكرار بالذات سيتكرر بلا نهاية! ماذا تعني هذه الخرافة المجنونة؟"
في الحقيقة هم فعلوا وقضي الأمر. ففي المرة الأولى أظهروا الشجاعة وفي الثانية الخزي. وهذان مثالان على مسيرة الإنسان في الحياة. أيهما أفضل إذن أن يكون التشيكي شجاع وقد لا يحصل على شئ في المقابل أم يكون جباناً ويَرْزَح تحت وطأة الإنبطاح حاملاً ثقل الخزي والهزيمة.
بالفعل إن مرة واحدة لا تحسب مرة واحدة هي أبداً. لكن، هل يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية؟ لو كانت تكراراً لأصبحت مدعاة إلى الملل والسأم ولما كانت حياة. لو كانت تعاد بشكل مستمر لما كان للإنسان أي إرادة في الإختيار لأن التكرار محتوم والإنسان، الحياة، العالم، لن يكونا سوى نسخ مكرورة. ولن يقوى البشر على تغيير ما هو محتوم لأنها تدور وفقا لآلية، هذا إذا كانت تعاد مجدداً. تلك الرغبة في بلوغ الكمال (الخلود بصورة ضمنية، البقاء أبداً وعدم الفناء أو الموت) من خلال الترقي هي التي تدفع الإنسان إلى التمنى بأن تعود الحياة مرة بعد مرة..وهكذا. الأمر الذي لن يفضي إلا إلى شئ واحد وهو ال "يوتوبيا" إن البشر كائنات متماثلة وغير حرة أقرب ما يكون الشبة بالآلة في داخل اليوتوبيا. أم أنه البحث عن "مخلِّصٍ" ذلك "المتعالي" الفوق بشري، رجل نيتشه "الكامل"؟
إذا كانت الحياة مرة واحدة. موت يعقبه فناء. فهي بلا معنى. لكن، إذا كان الأمر غير ذلك، وهناك حلم بالعود، لكن، إلى المكان الأول "الجنة" فإن الحياة في هذه الحال جديرة بأن تعاش، لأنها هي كل شئ، ولا شئ في الوقت نفسه. لأنها هي كل ما لدينا، ولأننا نجهل تصاريف الكون، فإنه "من خلال العدل والبصيرة يمكن اسداء العون لتصاريف الزمن التي لن تتكشف للإنسان" ومن خلال التجربة والخطأ يمكن أن يعيش الإنسان ويغير في الحياة، ولأن الإنسان كائن حر. فإن الإنسان هو من يصنع التاريخ وليس العكس.
(5)
هل علينا-كقراء-أن نصدر أحكاما أخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبطال الرواية؟ هل علينا في نفس الوقت نقيّم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته؟ يرد أورهان باموق: "الأحكام الأخلاقية هي ورطة لا مفر منها في الرواية. دعونا لا ننسى أبدا أن الحصيلة الأفضل لفن الرواية ليس من خلال محاكمة الناس لكن من خلال فهمهم، ودعونا نتجنب التعرض للحكم من خلال منطقة الإدانة في عقلنا. عندما نقرأ رواية، ينبغي أن تكون الأخلاق جزءاً من المشهد، وليست شئ ينبع من أنفسنا ويستهدف أبطال الرواية." "لكي نستمد المتعة من الرواية علينا الإستمتاع بهجر الكلمات وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا. عندما نصور في مخيلتنا ما تقوله لنا الكلمات (ما تحاول أن تقوله لنا)، نحن القراء نكمل القصة."
وعن الكيتش:
إن مصطلح ال كيتش الذي تردد كثيراً له دلالات كثيرة جداً. أولاً هو يعني: الأعمال الفنية أو الأدبية ذات المستوى الهابط، وهي أعمال صيغت لإجتذاب الذوق الشعبي السائر. (يمكن قراءة مقال الثقافة الجماهيرية من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب. فهو يقرب المعنى. والهامش ص117)
وبما أن الكيتش يحمل في معناه، انعدام الذوق، القبح، أو اللا فن. فإن ذلك يتجلى في مشهد المسيرة الكبرى. (في الرواية) إن هوية الكيتش لا تتحدد من خلال استراتيجية سياسية بل من خلال صور واستعارات ولغة معينة.
كانت المسيرة الكبرى كيتشاً والديموقراطية الخادعة المتجسدة في أمريكا والعالم الغربي هى كيتشاً أيضا. ف "أوروبا قد سارت بالأمس ضد الإحتلال الأمريكي لفيتنام، واليوم تسير ضد الإحتلال الفيتنامي لكمبوديا. بالأمس تأييدا لإسرائيل واليوم من أجل الفلسطينيين، بلأمس من أجل كوبا وغدا ضد كوبا، ودائما ضد أميركا، وكل مرة ضد المجازر، وكل مرة لمجازر أخرى." وهكذا تتجلى مشاهد القبح في العالم وفقا للمصلحة فقط.
الشيوعية ذلك العالم الذي كانت تعيش بداخله تيريزا برغم أنه نظام متزمت إلا إنه نظام بلا أخلاق. وبالمثل الأنظمة الرأسمالية. شيوع الإباحية وانعدام الأخلاق. وشيوع المرأة هكذا لكل رجل. علينا أن نعترف بأن القبح الذي يدعو إلى النفور والإشمئزاز لم يكن عرضاً في الحكاية أو أنه كان ليد الصدفة. لقد كان على القارئ أن يعرف مدى القذارة التى كانت متمثلة آن ذاك لدرجة أن تشعر معها بالقيئ. وهو أجاد في ذلك بالضبط كما يجيد أحد الممثلين دوره في أحد الأعمال السينمائية. شخصية الشر *عادل أدهم مثلا* أو ساذجا، أبله *أحمد زكي في فيلم البريئ*.
النص، في أصله، لغز. إن هذا اللغز يناديني. والنص يختارني.. (كي استحث المعنى الكامن للظهور.) ويوجد الآخر دائماً، إنه المؤلف. (وبخلاف ما يقول بارث) بدلاً من أن يوجد ضائعاً في وسط النص. تجد الكاتب يتجلى بالظهور كثيراً معلناً عن تدخلاته الغريبة، ليفسر ما سبق أن قاله، بطريقة فجة، وبدلاً من أن يترك الكاتب للقارئ مهمة التأويل كان لا ينفك عن التدخل للتأويل مرة ومرات عديدة.
وفي الأخير أقتبس ساراماجو:
"إن كل إنسان يرى العالم من خلال ما تراه عيناه، والعينان تريان ما تريدان، العينان تجمعان اختلافات الدنيا وتصنعان منها العجائب. (حتى لو كانت من صنع الخيال)."
لكل منا رأي. وأحب أن أقول رأيي بطريقة أدبية.
اقتباس آخر لبيجوفيتش:
"في حقيقة الأمر كل شئ يمكن اكتشافه فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، إنه فقط من خلال هذه الذات نتصل باللانهائي، خلال الذات-ومن خلالها فحسب-نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نشترك معه في ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات يستحيل أن نشهد عالماً وراء الطبيعة. لأن كل شئ آخر بجانب ذات الإنسان هو وجود براني ظاهري."
ومع النهاية اسأل:
- هل ما حدث كان لا بد له أن يحدث؟
- لا صوت يهتف قائلاً: "لا أحد يعرف".
من الأسفل كان يتناهى إلى مسامعنا صدى خافت، لحناً، ناعماً، هادئاً، حزين، لعزف البيانو والكمان.
- لأنه لا بُد.. لا بُدَّ مما ليس منه بد!
المصادر:
أبناء الأيام. ادواردو غاليانو.
الروائي الساذج والحساس. أورهان باموق.
لذة النص. رولان بارث.
رواية المنور. جوزية ساراماجو.
الطوف الحجري. جوزية ساراماجو.
الأعمال الكاملة ل وديع سعادة الإقتباسات من نص "غُبار" و "نصُّ الغياب". وديع سعادة.
خوف ورعدة. سرن كركيغارد.
مديح الظل. جورج لويس بورخيس.
الدين في مجرد حدود العقل. كانط.
الإسلام بين الشرق والغرب. علي عزت بيجوفيتش.
كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.
تاريخ الفلسفة الغربية. برتراند رسل. الكتاب الأول (فصل هرقليطس و بارمنيدس) الكتاب الثالث (نيتشه).
تعليقات
إرسال تعليق