شيء من هذا القبيل - إبراهيم أصلان
![]() |
| شيء من هذا القبيل - إبراهيم أصلان |
لا أتهم أحدًا، ولكنني أحب حكايات أصلان، وبالطبع نجيب محفوظ.
بالأمس توقفت عن اكمال المراجعة التي كنت أحاول جاهدًا أن انهيها عن كتاب: بين الصحافة والسياسة.
ولشعور بالإرهاق وغفلقة الدماغ عن أخذ خطوة واحدة أكثر مع "حواديت" الأستاذ هيكل. ولتجاوز تلك الحالة، فتشت في أرشيف الأفلام، وانتقيت واحدا من ملف بعنوان: صور الوجود. وهو مجموعة أفلام تعرفت على بعضها من كتاب بنفس العنوان للأستاذ ابراهيم نصر الله يقدم خلاله دراسات وتأملات في السينما. وقررت معاودة مشاهدة فيلم: أسطورة 1900.
![]() |
| صورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي للأستاذ هيكل |
وبينما الفيلم يدور، والسارد "ماكس توني" عازف الترومبيت، آداء الممثل الأمريكي برويت تايلور فينس وبينما "توني" يعرض صوته مقدمة "الحكاية" توقفت عند نهاية استهلاله وهو يقول:
"لن تنتهي أبدًا، طالما لديك قصة جيدة، وشخص تقصها عليه، لكن المشكلة، لا أحد سيصدق كلمة واحدة مما قلت!"
وتوني العازف البارع، هو صديق أسطورة 1900: (داني بودمان تي دي ليمون 1900)، والذي أدى دوره الممثل "توم روث". وهكذا يروي صديقه "توني" قصته. وبطبيعة الحال يمكن أن يظن السارد بنفسه وكذلك يبدي تفهمه لتشكك سامعيه في مصداقية قصته، وهو ما يقابله بالفعل خلال أحداث الفيلم. فقصته التي تبدأ في اليوم الأول من بداية القرن العشرين، على متن باخرة، يقوم أحد عمالها بالتسلل لصالة الاحتفال، نراه جاث على ركبتيه، زاحفا، يفتش عن بقايا أمتعة تركها أو سقطت سهوا من أحد ركاب الباخرة في غمرة احتفالهم بليلة رأس السنة. إذ يفاجئ بطفل في صندوق خشبي، تركه أو تركته ورائها احدى سيدات الطبقة الفاخرة، فيقرر أن يتبناه، وبذا تبدأ حكاية الطفل-الأسطورة الذي ولد وعاش وسيموت في جوف تلك الباخرة.
![]() |
| بوستر فيلم: اسطورة 1900 إخراج جوزيبي تورينتو |
وبعيدا عن قصة الفيلم وما يريد أن يصوره لنا العظيم تورنتوري مخرج العمل عن قصة ذلك القرن أو احتفاليته بالموسيقى. استوقفتني تلك الجملة وفي محاولة بائسة لإعادة صياغة ما كان يقوله "ماكس" بالإنجليزية وتحويله إلى جملة أدبية بدلا من الترجمة المعروضة على الشاشة.
وقتها، لا أعرف لماذا قفز إلى مخيلتي الأستاذ هيكل، ربما من فرط هوس الأيام الأخيرة في ملاحقة "حواديته"، وأخرى تتهمه بالكذب، لكن الرجل شَغُفَ بسرد "الحكايات"، وأكثر على ابهار قُرّاءِه أو لاحقًا مشاهديه عندما طلّ علينا من خلال برامجه الحوارية التلفزيونية محركًا يديه بين فينة وأخرى كما لو كان قائد أوركسترا هو فيها: المؤلف والعازف والمايسترو.
العالم كما يقول الشاعر الشاب المرحوم أحمد الطحان: مأساوي وكذاب، أساطير وملاحم ومهازل.
نص قصيدة زينب - أحمد الطحان
القصيدة بصوت أحمد الطحان
وهكذا وجدتني أقارن بين معضلة توني الذي يسرد قصة حَكَمَ عليها مقدمًا بعدم المصداقية وبين أسطورة الأستاذ هيكل، وافترضت أن ذلك الاقتباس ينطبق عليه بوجه من الوجوه. الرجل لديه السردية "القصة" فجعبته ملأى، دومًا، بالقصص المدعمة بالوثائق، وبطبيعة الحال لن يعدم رجل مثله ليس في الحصول على شخص واحد يسمع حكايته وينقلها مبهورًا، فضلًا عن الآلاف سواء من معاصريه أو من تلاميذه أو من قراء العالم الواسع، أو من المنتفعين من مختلف المشارب والخلفيات الكبيرة.
توقفت فقط عند الجزء الأخير من الاقتباس: المشكلة، لا أحد سيصدق كلمة واحدة مما قلت! وأخذت أهزي حتى غلبني النوم.
ومجددًا، في منتصف النهار، (أي اليوم)، بعد التناوش مع خلطة الأستاذ هيكل، وتسليك المعلومات، وتركها في الأخير جانبًا حتى تجف! وبعد أن امتلأت دماغي عن آخرها. إذن لا مفر من البحث عن فاصل مستقطع، وبالفعل، استكملت قراءة كنت بدأتها مع الأستاذ إبراهيم أصلان وكنت قد توقفت عندما القتني المصادفة أو أنها كانت ذكرى هزيمة يونيو: إذ وجدتني أمام مذكرات صلاح نصر وقضية اتهام الأستاذ مصطفى أمين وبالطبع ساقتني الأقدار للتورط في قراءة كتاب الأستاذ هيكل.
كنت قد توقفت عند، رحلة الأستاذ أصلان لبطرسبرج، وزيارة: بيت دوستويفسكي، وهئنذا أكملها.
لم يكن هناك أمتع من أن أنهى تلك العصرية بأفضل مما قرأت. ورغم أنني كنت أقرأ متأنيا إلا أنها راحت تتطاير الصفحات، وبين فينة وأخرى كنت أتوقف "مقهقها" عند كل قفشة يسربها الأستاذ أصلان ويكمل استرساله دون أن يلقي لها بالا. وقرب النهاية إذ بمفاجأة أخرى يقدمها الأستاذ أصلان، "وداع الأستاذ نجيب محفوظ" ورحت أركض وراء الكلمات، وإذا بالفقرة التي كنت أحاول تدويرها للحصول على صيغة أدبية لها في نهاية المقال.
![]() |
| الأستاذ نجيب محفوظ |
يقول الأستاذ إبراهيم أصلان:
في وداع عم نجيب.
هناك طيلة الوقت كُتّاب، وهناك كَتبة، وهناك مُسْتَكْتَبون.
والكل يكتب.
أسباب الكتابة معروفة في بعض الأحيان،
وغير معروفة في أغلبها.
إلا أن هناك، في هذه الدنيا، قلة منذورة، كي ما تكون لسان حال الخلق من حوله،
العم نجيب، من هؤلاء.
والآن، رحل الرجل العزيز، الغالي،
الذي يمت بصلة قربى لكل مواطن على أرض مصر،
فما الذي يمكن أن يقال؟
لا شيء.
لقد غاب الجسد، وغيابه هذا يعز على النفس، أيما إعزاز،
إنه يوم حزين آخر، حزن ممض.
ولكن اسم نجيب محفوظ، طبعًا، سوف يظل باقيًا.
وسوف يظل ما أنجزه السيد المؤسس، ميراثًا باقيًا لأجيال من القراء،
ومزارا لمن يحسنون القراءة من دارسين وعلماء نفس واجتماع
ومؤرخين وفلاسفة.
لا حديث الآن عن ما كتبه، فما كتبه صار جزءًا من حياتنا،
لكن الحديث يبقى عن المثال الذي أعطى،
العمر الطويل الذي أمضى، والذي صار أعظم ملاحمه كلها.
ذلك الذي كان إحدى ظواهر الطبيعة، والذي عمل مثلما تعمل
هي،
بفصولها الدوارة المتجددة.
النظام، العكوف، الجدية، الدأب، الصبر، الهدوء، الدقة، التأني، الاستغناء، المثابرة إلى آخر مدى.
هذه المعاني التي لم تكن سوى أمر واحد:
الإيمان بقيمة من يتلقون عمله.
لقد احترم قارئه المفترض، وآمن بقيمته كإنسان.
فطوبى له. برهان ساطع على القدرة الخلاقة لهذا الوطن
واليوم، إذ تطوى الصفحة الأخيرة من كتاب الأدب الكبير،
ويصير الحال غيرالحال،
وندرك نحن الواقفون في العراء، أن الجسد غاب،
والضحكة الصاخبة انطفأت،
لتكتمل الأسطورة،
وتبقى.
قيل، مرة، أن أمرك لا ينتهي أبدًا،
ما دام ليدك قصة تسردها، وشخص يصغي إليها.
وكم سرد هو،
وكم اصغينا نحن،
إلا أنه آجلًا أو عاجلًا، يصل كل منا إلى نهاية قواه،
وتنتهي القصص،
ولا يبقى شيء يضاف.
يا عم نجيب.
انتهت كلمات عمنا ابراهيم أصلان، ولا أعرف حقيقة إن كان الإقتباس ورد في كتاب ما، إن لم يكن؛ فأغلب الظن أنه قد شاهد الفيلم واستوقفته الكلمات، لكنه لم يستخدم جملة: "لا أحد سيصدق كلمة واحدة مما قلت، تلك هي المعضلة"




تعليقات
إرسال تعليق