هذي روح..

 هذي روح.. لو أنها كبُرت!


هذي روح..

وهذا الدم، دمي.

لِمَ شَرِبتَه؟!

وَيلٌ لِلنَّاسِ مِنكَ

وَوَيلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ.

فضحك!



تولد قُطَيْطَةْ، تلعب هنيهة، ثم تموت. تلك هي الحياة، حياتي. الآن -ولأنني كبرت- يمكنني قول ذلك. متحررة من كل قيودها. أراها الآن كما لا يمكن لأحد أن يرا. وأتذكر.. كل شيء.. عرفت الحقيقة.. لا كما وصفها الكتاب والفلاسفة. ولكن لأولئك الذين تجرعوا الكأس مثلي.. كأس الحياة، فشربوها حتى الثمالة.


لو أن لي متسع من الوقت كنت سأتهيأ للخروج، لن أختار ثيابي التي كنت سأعتادها، فليس عندي أفضل مما أرتديه الآن، سأدع حذائي العالي، حقائبي، كل أدوات زينتي، التي حلمت بها يوما..


لم تتحقق. 


كنت أرغب في قص شعري وأن أغير لونه، وأقلم أظافري. وأختار لشعري لونا كستنائيّ ولأظافري لون التورد الباهت. هكذا تتضح الألوان. لا أسود، لا أبيض، لا رماديّ. كلها ألوان بلا طعم. للون طعم.. نعم، قبلة على خد أمي. مُسْكِرة. لم تتح لي الفرصة كي أقول لها. ولأخبر أبي أنني ينقصني كل العالم إذا غاب. لو أن لي الاختيار. لاخترت حضنه الدافئ. ورائحته العصية على الوصف والكتابة. ونمت هناك.


نعم من تحدثكم الآن هي روح.



من عدم الوقت وانمحاء المكان أطل عليكم. لا كما تطل الأرواح كل ليلة على مكان موتتها. أطل من نافذة فتحت، في سماء الغياب، لي وحدي.



أتذكر البيت، بيتي، غرفتي، خيط الضوء المنساب من الشرفة، وكل متعلقاتيّ التي تخيلت أنها ستصير -يومًا- جزءا مني ولا يمكنني الفكاك منها. الآن أتحرر منها بملأ رغبتي.



لا ينقصني سوى صوت أبي.. ومنه بحته.. حشرجته الصباحية. لعبة العند المستمرة مع أمي، ورائحة الكعك الشهية، وكل القصص التي كان يمكن أن ننهيها مع كوب شاي. لن أسامح قاتلي لأنه حرمني تلك المتعة (التي كان يمكن أن تكون) ولأنه حرمني الفرصة لرتق كل ثقوب العتاب بيننا! أتمنى الآن أن تمنح لي الفرصة لأعود، وأخبرهم أن يسامحوني وأنه، أبي، كان على حق. 

"يا روح.. لا تلعبي خارج الدار فالذئاب تأكل الأميرات الصغيرات"


الأرض لنا والسما!


سقطتُّ.. فهل سقطت ورقة الشجر الأخيرة؟ هل انتزعتها الريح العتية؟ الآن أجلس في ظلها. ليس هاهنا ظل ولكني أقول ما تعودتم على سماعه. لا يمكنني الإجابة عن تساؤلاتكم. يمكنني قول ما أريد وليس لأحد سلطان عليَ. الآن وقتكم، وقت الإنصات. لا تنزعجوا من كلامي. لا أحد منكم مرغم. فمن أراد فليستمع ومن امتنع ستصله كلماتي. لا أعرف كيف. لكنها ستصل. هذا وعد مني بذلك.



 لأنني سمعت كل ما قيل. فإن كنت هنا ووصل الخبر. فكيف لا يصل إليكم مني إذن. لست غاضبة. ليس هاهنا ما يمكن تسميته بالغضب. وليس للشكاية معنى. هاهنا ما لا يمكن الإشارة إليه. دليل الإشارة يذوب في غياب العبارة. لو أن ليَ الحكم على قاتلي لتمنيت له الحياة. نعم، حياة لا تنتهي. ذلك هو العذاب الذي يستحقه. إن مسه روع الحياة هنا سيطلب ألا يعود. تلك هي الرحمة. لأن الألم هو العيش في ذلك العالم. هو جزء من آلته. لست وحدي، معي كل الذين تركوا مكتوبا، وكل الذين لم يودعوا أحبتهم، وناموا تحت الحطام. لست وحيدة، لأنهم أخوتي، يشبهونني. يتفقون معي فيما أقول. لو أتيح لهم القول لن يكون إلا ما أخبرتكم به. لو أتيح لهم الوقت كانوا سيكبرون.. سيحلمون.. بأشياء بسيطة.. لو تسمعون غنائنا لعرفتم. لحن واحد يعزف. صوت واحد يتردد. وكلنا نطل عليكم. حين يسقط المطر. ليس بكاء الملائكة كما يظن البعض. إنها صلواتنا لكم. لإطفاء تلك النفوس المحترقة. نحن نطلبهم. لكن عليكم ألا تدعوهم يغادرون مثلنا محترقين. لأنكم لو فعلتم من سيبقى لديكم.. سوى مشعلي الحرائق. لن يكتوي بنيران الحرائق سوى هؤلاء الذين وقفوا متفرجين. وتخيلوا عالمكم وما سيصبح. إنها نصيحة، لا تتركوهم يأتون إلينا هكذا. لا تتركوهم وحيدين، يشقون في وحدتهم. امسحوا على قلوبهم التي مضغها الخوف واليأس -من الصديق قبل غيره- بماء المحبة. تخلصوا من الحقد والكراهية. استمعوا لنا، نحن سُقينا حتى ارتوينا، واترعنا بماء الخلود.

لن أموت مرة أخرى.

سأحيَ ليوم أجتمع معكم.

وأرى قاتلي.

وكل من قتلونا بصمتهم.

سنقف ونلقي عليكم الورد لا الشوك.

في طريقكم إلى الجحيم.. سيكون آخر ما ترونه نحن ونثر الورد، والأمر يعود إليكم. اتركوها تسقط ورقة وراء أخرى. حتى يجف الغصن.


إن أردتم أن تكفوا عنا الأذى، خلصوا لحمنا من أنيابكم، والدم الذي شربتموه، وافعلوا شيئا، غير الكلام، كرمى لله. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة زينب لأحمد الطحان.

بين الصحافة والسياسة (2)

كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.