حلم التحليق
حلم التحليق
ليس رفيف أجنحة،
لكنها شطحات الإرادة نحو الأزرق اللا متناهي.
كنت أسير في طريقٍ أعرفها جيدًا، احفظها، عن ظهر قلب. خارجًا من عند صديق لي ةعائدًا إلى البيت. الوقت بدا متأخرًا. كنت ادندن -كعادتي، إذا ما سرت ليلًا، منشرح الصدر، متغنيًا بأهازيج الطرب ومترنحًا من صبوة السهر. كان الجو صحوًا. وكانت الليلة الخريفية يتسرب إليها بدايات البرد، لكن، هل يمس جسد عاشق؟
انعطفت يسارًا، مارًا بِـ ومتجاوزًا شجرة الليمون. متنبهًا ألا تعلق شوكة بثيابي أو بوجهي. ممتعًا النفس في لحظة مروري تلك، باستعادة أوقات اللعب هناك. وتخيلت تلك الرائحة، بحثت في رأسي عن ذكرى تمثِّل تلك الرائحة، لم أجد ما يماثلها.
رائحة الهواء الرطب والتربة التي تسبق المطر مباشرة، ممزوجة بشذى الليمون وعبير أزهاره، تلك الرائحة -كيف يمكن أن اسميها؟ - ماذّة؟! رائحة عبقة وماذّة. تلك التي نستشعرها من خلال غدد الفم وعلى طرف اللسان. تتضوع إذن من أوراقها الداكنة الخضرة ومن عصارة أغصانها المتينة. كنت أعرف في داخلي أنها، أي تلك الرائحة، هي رائحة الطبيعة البكر. هكذا تكون عند البداية. عذوبة (أو مذاذة) وشوك. كان هذا عندما انعطفت يسارا ودهمني الحشد. باغتتني المفاجأة أكثر من الحشد نفسه. كدت اتوقف وألتَفُّ عائدًا على عقبيّ، لم يكن هناك بد.. برقت في رأسي الصورة. إن عدت إلى الوراء، سأجد نفسي في مواجهة صف من الرجال، وإن تقدمت إلى الأمام، اقتحمت صوان الحريم. دون تفكير كان عليّ أن انعطف يسارا، وهو الطريق التي أملى عليّ عقلي سلوكها بحكم العادة ربما.. ولحسن الحظ أو لسوئه، كنت أسير على حافة قناة، تكفي قفزة صغيرة لعبورها، لكن حافتها عالية قليلا حتى إني تمكنت، دون رغبة مني، من رؤية ما تخيلت منذ قليل أنه موجود وأني رأيته أو لمحته. كان حقلٌ من الرؤوس يانعة ومشرئِبَة ومظللة بالسواد.
سرت همهمة غريبة، سقط في روعي أنني ارتكبت اثمًا، هل اقتحمت عليهن خلوتهن؟ لم أقدم على فعل شيء. حثثت الخطى، مانعًا نفسي من، الالتفات، أو التنفس، أو الرؤية. تجاهلت كل شيء. كنت أشعر بالرؤوس السوداء ملتفّة ناحيتي. وكنت أشعر، أكثر، بنظراتهن، تخترقني، كإبرٍ حادة. قال صوت بانفعال مغيظ: عيب، ألا تستحي!
ما تبدد الصوت حتى سرت همهمة مرددة تلك الكلمة. تحشم، تحشم، تحشم، كأنها تعويذة أو كفارة.
أنت..؟ صرخت المرأة.
قف مكانك! لم أنظر نحوها. ولا نحو الأخريات الجالسات في الصوان. برأس مطأطئ وخطوات مهرولة. لم يكن هناك طريق آخر. ماذا كان عليّ أن أفعل؟ هرعت في اتجاه الطريق الوحيد. لكن صوتا آخر علا بسبّة. رددتها في نفسي. علت الهمهمة أكثر متحولة إلى كورَس يردد نفس الكلمة في صخب. حين أردت أن التفت، لم أتمكن من ذلك، كل ما كنت قادرا عليه هو نصف التفاتة. فلمحت بطرف عيني امرأة تقف في وسط المشهد، تلوّح بيديها كمايسترو، يقود أوركسترا عويل لنساءٍ مسربلات بالسواد.
ساد صمتٌ فجائيّ. للحظةٍ. أشارت السيدة بيدها، فوقفت امرأة أخرى من الجمع، مالت للأمام ثم انتصبت فجأة ورأسها نحو السماء صارخة بنداء عجيب. دوت صيحة المرأة كصوت انفجار هائل وأخذ جسدها ينتفض.
بوووم.
مدفع رمضاااان.
ظل الصوت يترجع وصداه يدوى..
السماء مرتعدة بصوت الفرقعة. مدفع رمضااااان. ترعد السماء.
عليكِ اللعنة، فيما تقولي وما تفعلين؟ هل كانت تلك الكلمة رادعا لي، لا لكي أبتعد عن الطريق. بل لتوقظني وأخرج من ذلك الحلم الغبي. ولما لم ابتعد، وكان رغما عني، إذ تصلبت في مكاني. تكفل صوتا آخر بسبّة، أخرى. فرددت شاتما هذه المرة. صاح صوتا حادا يستنجد بكل من في الصوان المقابل. هوى قلبي في قدميّ هلعا.
كما تصورت، صرخة واحدة كانت كافية لتنهض غابة أخرى ولكن من الشوارب لكي تؤدب روح فتىً صغيرًا، لكنه يعكس ظلا لجسد كهلٍ، كل خطيئته أنه، بعد أمسية عند صديقه، ضل طريق عودته إلى البيت ودخل بالخطأ عزاء أحدهم. هل يقيمون العزاء في هذا الوقت من الليل؟ أي وقت كان؟
حاولت الهرب، هكذا تمنيت، وهذا كل ما أمكنني فعله، التمني... لأنني مهما رغبت في الحركة، لم أقدر. كأنني.. -وبمقولة يمكن صياغتها في مؤتمر علمي- تحليلي، كنت أمشي في فراغ مكثف، تشدني قوى جذب مغناطيسية هائلة، أو كما لو كنت أسير فوق غراء أو..
(الآن تتوارد الصور)
غائصا في بحر ليّن من عجين. وحين أصبح الخطر داهما. انطلق نداء في داخلي أن "اقفز"..؟ ما أنا بطائر.. اقفز ليعرفوا من أنت.. اقفز. ما أنا بقافزٍ. اقفز . يتردد الصوت بنفس الطريقة المدوية.
مدفع رمضان..
في نفس اللحظة لا قبلها ولا بعدها ولكن أقل حدة وبنبرةٍ محفزة.
اقفز../ مدفع رمضان..
ما باليد حيلة. استجمعت قواي الخائرة، أطرافي المتجمدة، ولملمت شتات نفسي المتلظية بالكآبة والهلع. وقفزت.. بكل ما وسعتني إرادتي.
تخيلوا...!
فإذا بجسدي -إي والله- لو كنت أحلم ما تخيلت أعذب من ذاك. فإذ به، ينشدُّ، ينخلع من مكانه، يتحرر من تلك الآلة المسيطرة عليه ويطفو. ليس كريشةٍ في فلاه، ولكن بخفةٍ الخفقان، وقوةٍ الرجفة. منغمسا في حبورٍ وفرحٍ غير مسبوق.
أشعر بقوتي، من أصابع قدمي التي تضغط على الشيء، الغير مرئي؛ أربطة ركبتي شديدتين كما لو كانت أوتار مشدودة على قوس. أشعر باندفاعة الدم في عروقي وباحتكاك الهواء، الدافئ؟ على وجهي متخللا ثيابي. كنت أرى، مصغيا إلى جسدي، ومن خلاله، كأن عروقي تجرى بها دماء متبصرة.
كان جسدي كله كعينٍ يمكنني أن أنظر بها، ومن خلالها، أرى نفسي والعالم. بعد ذلك، وكلما حاولت أن اتذكر شعوري وقتها، لأستعيد تلك اللحظة المتخيلة داخل الحلم. كنت أتخيل أنني ولدت مجددا.. الآن، الهنيهة.. وتحوُّل العجين تحت قدمي، ليصبح شيئا أكثر لدونة وأكثر "مطمطة" وأكثر قوة. إذ كان يكفي أن اضم ساقي لأعلى نحو صدري واضغط على ذلك الشيء المطاطي المحاوط لي، ولا يدع مجالا حتى لتكوُّن "الفراغ" إذ أنه يلاحق قدمي التي ارتفعت للتو. وفي نفس الوقت ينصاع للضغطة، فيدفعني للأمام.
كنت أسبح، كما يسبح الضفدع، الذي رادأيته ونسيت أن أذكره -لداعٍ من دواعي الذاكرة الغامضة- على سطح القناة، ولكن في الفضاء.
برغم كل ما مررت به، وبصرف النظر عما يحدث، كنت لم أزل أشعر بالخوف. نعم، إذ أن السحر الذي دفعني للهواء، من المحتمل أن ينتهي فجأة، طرااااخ، وأسقط.. كان ذلك يبعث الخوف الممزوج باللذة، في نفسي، التي تحثني، في الوقت نفسه، على القفز، والمزيد من القفز والانطلاق.
أفرد ذراعي وأشد جسدي للأمام، أقلّد الضفدع تماما. يرعد الصوت. مدفع رمضاااااان. إلى الأمام، إلى الأمام.. هيا، أيها الجنديّ الضفدع، أيها الضفدع الجنديّ، إلى الأمام نحو الأزرق المترامي. وكلما قفزت كلما ازداد الخوف أكثر وأكثر. كل قفزة تفجر في روعي وعيا مختلفا، شعورا جديدا، أبديا، عذبا وعصيّ على الوصف والنسيان. تغلى عروقي بدم شهي، أشهى مما تذوقه بشر من قبل. وفجأة، بللووووم.
"عسلا تدفق في ربوع الروح"
كنت أحلم وأعي تماما غير ذلك، انتقل بين ومضات تلقي في نفسي صورة الحلم والصحو، في لعبة خداع للمخيلة، وأني اتقلب بين الحلم وبين الإفاقة، غير قادرا على الصحو تماما. تدوي الرعدة مرعبة في داخلي، يكاد قلبي ينخلع من ضلوعي، وبدلا من ذلك تدفعني لأعلى نحو مزيد من الخوف العذب والفضاء الرحب، نحو قمة الرغبات وخفوت الأماني.
كنت أغمض عيني فلا أرى سوى ذاتي، كالضباب المخضب بالعسل.
مدفع رمضان. بووم.
تتفجر النجوم والسموات من حولي ناثرة غبارها اللامع بكل الألوان، التي نعرفها ونسميها بأسماء أرضية، لم تكن شبيهة بألوان أخرى، وهكذا ينفجر الضوء مستمرا في تلألأه، بلونٍ كحبات السكر المنثور، يتبعه الصوت.
بوم.. مدفع رمضان!
كان صوت المرأة يتخذ، -كلما تعمق الحلم- منحى مغايرا، أي أنه يصبح أكثر تضخيما، وغلظة، وأكثر شرا. كضحكات الساحرات الشريرات منفوشات الشعر. ظل يتردد ويخفت في تردده شيئا فشئيا حتى تبدد. كنت نائما منكمشا اضم ساقي نحو صدري خوفا. وجسدي كمحارة كبيرة تحتويني، أجلس في وسطها كعين تطل على الخارج مشاهدة ما يجري هناك.
أجدني أخيرا وصلت إلى الممر الذي يأخذني نحو البيت القديم، بيت طفولتي. أُنَقّل خطاي فوق الأرض الترابية الرطبة. لا بد أن الوقت متأخر جدا. خوفا آخر يدهمني. ليس عذبا. يتحول إلى غصة في الحلق. نفس الشعور يعاود نفسه مجددا. والآن أصرّح به. نداء الطبيعة. ولا بد أن البي النداء. أجدني أمام البوابة الخارجية. لمبتها المحترقة تطل على المدخل.
ما زالت البوابة مفتوحة أو إحدى ضلفتيها. ادخل، أشعر بحفيف قدمي على أرضية المدخل. أعرفها جيدا فسحة مربعة مسفلة بالأسمنت، سطحهها الخشن بعض الشئ؛ أعرف شعور احتكاك قدمي بالأرضية، الفرن على يميني، الطبلية الكبيرة على اليسار، خزانة تحت السلم.
"قل أعوذ، مد بوذه، في الخزانة، كَلْ يمامه!"
ذكرى لأغنية من الطفولة. درجتين يفصلانني عن باب الشقة الموارب.
اللمبات مضاءة.
اسمع صوتا آتيا من الداخل. لازالوا مستيقظين. ولا بد أنهم فرحين بشيء ما، لأنهم كانوا يثرثرون ويضحكون، ترى هل عندنا ضيوف.. في هذا الوقت؟ أي وقت؟!
لم أقطع بدقة هل هو قرب الفجر أم أول الليل؟ كنت دائم الخلط بينهما. ضحكاتهم سلسة كنهر متدفق، أنقر على الباب. أسعل، سعلةً، خفيفة. عندما أدخل، أجدهم جميعا جالسين على الأرض أمام التلفاز، بلا صوت. يبث إعلانا.
اتجهت نحوي الوجوه، وانقطعت الضحكات.
جالسا على شلتةٍ، على الأرض. وجه والدي العائد من الموت يعكس شبابا واهنا، كأنه أصغر عشرين عاما. لكن محياه يعتصره الألم، يخفيه، الوجه الجديد. شفتاه زرقاوين، ينظر في عيني، أنخسئ تحت نظراته، يهز رأسه، يقرأ كل شيء، أين كنت وماذا فعلت ومن أي طريق أتيت.
اختفي جميع من في الصالة. لا، كانوا هناك. لكنى لا أستطيع أن انظر نحوهم، فقط عيناي مثبتتان في عيني والدي العميقتين، تسبر غوري وتفضحني.
البيه جاي سكران؟!
جف حلقي وتراقصت حنجرتي بحركة عصبية. لم تمكنني حتى من ابتلاع ريقى.
"غريب كعود كمون وحداني في غيط درة"
ماذا؟
كل شيء في الحلم يسير بالعكس.
ولمزيد من التأكيد يصر والدي. تنكر أنك كنت في المكان.. يذكر مكانا بعينه ويكمل بحيث لا يدع مجالا للشك أو للكلام. مع فلان وفلان. يتكلم كأنه ينظر من خلال نافذة تطل على الماضي. لكنه يراني فعلا أجلس هناك واتجرع الكأس تلو الأخرى. حين تجرأت على الكلام.
لم أكن هناك. قلت ويخنقني البكاء.
هذا لا يعني أنك لست سكرانا قال أبي أو صوت من دماغي. ألححت، لم اذهب الى ذلك المكان. الغريب أنني كنت أشعر بالدم يتدفق إلى رأسي ما جعل رأسي تتمايل وترنحت قليلا كما لو كنت سكرانا فعلا. كيف؟
إذا كنت سكرانا، لماذا عدت، ما الذي دفعني إلى ذلك، كان عليّ أن أبقى هناك حيث..
أنت فاشل..
قطع سيل أفكاري الصوت.
ولا تساوي شيئا.
برقت في رأسي صورة لسباطة الموز في شجرتها الأم.
لهذا الباب، وأشار نحو باب الشقة، فائدة أكثر منك. لست ذا نفع كغرض مهمل، كغصن يابس.
لم أعي الإشارة تماما. غير أن ما قاله والدي اغضبني لدرجة كبيرة. جعلتني اندفع، بحنق شديد، تخرج الكلمات ثقيلة ومتقطعة، لكنني.. تكلمت،.
لا لست فاشلا، لست بابا لا يفضي إلى لا شيء، إنني.. وكاد نَفَسي ينتهي، فلا أستطيع أن أكمل الكلمة، كمن يغرقون رأسه في الماء، إنني.. بخير.. وعلى.. أفضل.. حال. هذا ما تمكنت من قوله.
ولما تذكرت ما كنت أفعله، منذ قليل، أحلق، قادرا على الطيران. وهذا يعني أننى انتصرت على خيالات الطفولة، وكنت أطير حقا بلا أجنحة.
إنها توقعاتكم، طموحاتكم أنتم، لو تعلمون، إنه طموح مبالغ فيه. لم عليّ أن أفعل دوما ما هو منتظر مني أن أفعله. والذي هو ليس سوى رغباتكم. لم تطلبون مني المستحيل. الذي تعلمون جيدا أنني أو أي انسان آخر لن يقدر على تحقيقه، لم لا ترونا شطارتكم. لست فرعا مائلا. كنت اتكلم بصيغة الجمع والكلام موجه لكل من يجلس في الصالة لكنني كنت أحدق في.. كفي واتكلم، اضم اصابعي في نزقٍ، اغلقها منددا، ومتضرعا، طالبا التفهم، ليس أكثر. حين انتهيت التقت عيناي بعيني أبي. وجهه لم يكن مستاءًا من كلامي، ما كان يثير فيّ رغبة في المزيد من الكلام. لكنه كان منفعلا. كأنه متقبل ما أقوله. إذ من المنطقي أن يفعل المرء ما يوده وليس ما يود غيره. كان متفهما، لكنه كان رافضا لسكرتي. كان الدمع يتفجر من عيني وفمي يتطاير منه الزبد منتفخة أوداجي، ومحتقنة، ليس بالكلام ولكن غيظا من الشعور المهمين الذي تعرضت له وهو "الظلم"
كانت طريقة سير الحوار عبثية، وحين تفطنت لذلك، فُتحت عيناي، فانحلّت كل خيالاتي، فجأة، مثل خيط في ثوب حين تشده من الطرف الصحيح يتكرور، ويتحول إلى كتلة من النسيج، ولم يعد شكلا. وهكذا اختفت معالم المكان من حولي وانقشعت الصور من رأسي، واحدة تلو الأخرى، وتبقت كومة النسيج. في محاولة مني لغزل ذلك النسيج مجددا، لاستعادة الحلم، وتذكر ما تخيلت أنى رأيته.
ظلت ذكرى واحدة، تطوف بمخيلتي، والدي بوجهه الشاب، الشاحب الممتقع، جفونه الملتهبة، وبسمته المتألمة، التي تعلو محياه، يهز رأسه متفهما، والدمع ينحدر على خده الأسمر الجميل النبيل.
"قلت لك خذ من أيامي قبل أن تنتهي، لكنك ما أردت"
لست ذا نفع كغرض مهمل، كغصن يابس. كباب لا يفضي إلى شيء.
كانت تلك هي الفكرة العالقة والمترددة في ذهني حين استيقظت منطلقا نحو الأزرق اللا متناهي.
تعليقات
إرسال تعليق