مراجعة لرواية: بداية ونهاية. نجيب محفوظ.
بداية ونهاية
بداية الأمر أي أوله، ونهايته أي منتهاه. ولما كانت "بداية ونهاية" مجردة من التعريف "ال" فهي بداية ونهاية أي مبتدأ الأمر ومنتهاه. ولكن بداية أي شيء ومنتهى ماذا؟ نقطة البداية والنهاية منفصلتين "أ" و "ب" (من وإلى) الميلاد والموت وبينهما خط فاصل هو الحياة حيث "أ" تؤدى بالضرورة وبالقوة الحتمية إلى "ب".
مطر.. مطر.. مطر..
بداية
حكاية عن أسرة مصرية "الوالد" كامل على موظف فى دائرة المعارف، "الأم" ربة منزل، ثلاثة أولاد وفتاة. حسن، حسين، حسنين، وبهية. تبدأ الحكاية بموت الوالد المفاجئ. فتفجع العائلة وتترك الحادثة وقعا فى نفس الشابان مما دعاهما للتساؤل عن فجائية الموت ووطأته ومن هنا تبدأ معاناة الأسرة فى مجاهل الحياة. حيث لا دخل لها بعد موت الوالد. كما أن اجراءات الحصول على المعاش معقده إلى أبعد الحدود. ولما كانت الأخت نفيسة من هواياتها استخدام ماكينة الخياطة فلم يكن هناك بُدّ من أن تمتهن "الخياطة" للعمل وكسب بعض القروش وهو ما اضطرها أسفًا إلى قبول مقابل مادي نظير عملها بعد أن كانت تقدمها كخدمة مجانية لجيرانها. وتعتبر نقطة مفصلية فى تغيير نظرتها لنفسها وللعالم. أما الأخ الأكبر "حسن" الذى كان يعول عليه أن يصبح رجل البيت بعد وفاة والده لم يردعه ذلك سوى مزيدا من اللهو والقصف والإنفلات أكثر وأكثر.. من البداية قاطع الدراسة ولم يكمل تعليمه ولم يرضى بالوظيفة الحكومية فليس لشيء عنده ذو قيمة سوى حريته حتى وإن كانت على حسابه وحساب أسرته، اتجه إلى الشارع، متخذا من المقاهي ملاذا والليل دثارا. وكما جاء وصفه فى الرواية أنه: "وثنيٌّ بالفطرة" لا يحتكم إلى أية مرجعية أخلاقية سوى القوة. أما حسنين شاب صغير مشبوب العاطفة تملأه رغبه فى التغيير، يشارك فى المظاهرات ضد الإنجليز، حاد الانفعالات ينطلق من كبرياء وعزة يحصن بهما نفسه في مواجهة العالم. ولكنه يخوض معكرة قلقة تهزه أفكاره، هل الرضوخ والإذعان للأمر الواقع أم محاولة تغييره، هل الاستسلام للأقدار أم مواجهتها والإنتصار عليها؟
حسين العقل وحكمة الرواقى
أما حسين فهو الجانب العقلاني-الهادئ بين تلك التمزقات يمينا ويسارا. غير حانق، تجوسه الأفكار هو الآخر، لكنه ليس مندفعا كأخيه، راض، يرفض الواقع رغبة فى تغييره، ليس عن إيمان عميق، وإنما لأنه يعرف أن الحنق لن يغير من الأمر شئ. يحب القراءة، ويحب الصمت، ولا يعلن شكوكه جهارا، اضطر إلى انهاء مرحلة التعليم عند البكالوريا (الثانوية) وبحث عن الوظيفة بمساعدة صديق والده، وقبلها لمساعدة عائلتهـ يعزوه شعورا بالتسليم والإطمئنان الظاهري، ولا يمنع أنه تجتاحه أحيانا، لحظات السخط والغضب لكنها لا تعدو عن كونها انفعالات داخلية أو حديث نفس، لكن الإتجاه العام لرؤيته هو التجلد: لنصبر أو فى الأقل نتظاهر بالصبر. لنغضب أو نسخط كما شئنا لن يغير ذلك من الأمر شيء. يسكن نفسه بعزاءه الوحيد: وهو أن هناك قوة أكبر منا جميعا تطحننا طحنا وتلتهمنا التهاما!
هناك علاقة سببية إذن بين موت الأب وتدهور المعيشة فليس هناك مصدرا للرزق سوى ما تقدمه الجيران من مساعدات والقروش التي توفرها "نفيسة" من الخياطة. ومساعدات "البك" صديق الوالد. يأتي بعد ذلك دور "الأم" وهي غير مسماة في الرواية سوى بالأم. كقيمة ثابتة ومطلقة بمثابة حلقة الربط، الركيزة الأساسية والمرجعية لأبنائها -ما عدا حسن ومع ذلك لم تنسه. فالأم رغم البؤس كانت تدبر وتدوّر وتوجّه وتنظّم وتقوم بترشيد استخدام كل الموارد المتاحة والممكنة لخدمة عائلتها. انتقلت إلى شقه أصغر من شقتهم لتوفر مبلغ الإيجار وتخلت ما استطاعت عن متاع بيتها، حتى فراش الزوجية، وقامت ببيعها. واستبدلت الكهرباء، بلمبات الجاز، الذى كان استخدامها محسوبا أيضا وكل ذلك لتوفير القروش لعائلتها.
وكما نرى والحال كهذه فالعائلة كانت تعانى من فاقة شديدة وضيق اليد. يمكنك أن تراهم يجلسون في الظلام طيلة الوقت توفيرا للكهرباء والكيروسين. وفى حالة تدبير متناهية، لا بد من الإقتصاد مهما كلفهم الأمر، مما كان يدفعهم إلى حافة الخوف والقلق، الخوف الذى كان يخيم على الأسرة مثل الظلام، خوف دائم من أن تزيد النفقات الضرورية على الإيراد المحدود، كأن يتعرض أحدهم للمرض، أو يجد من ناحية المدرسة طلب، أو تتعطل نفيسة عن الكسب فتتعطل بهذا الشكل حياتهم، أسرى للغذاء والكساء والمسكن، تحت وطأة الفقر ونير الظلام.
الصورة المجازية فى "الرواية" والإتجاه الخطى:
الصورة المجازية هى وسيلة إدراكية لتحليل النصوص وللواقع. يوجد داخل كل نص، مكتوب أو شفهي، نموذج كامن يستند إلى ركيزة أساسية، عادة ما تترجم نفسها إلى صورة مجازية، استخدمت بوعي أو بغير وعي، للتعبير عن هذا النموذج. ومن خلال قراءة النص ورصد أو ملاحظة الصور المجازية المتواترة خلال السياق وقراءة دلالتها، حتى يمكن تحليلها وربطها ببعضها البعض، من خلال عملية تفكيك وتركيب وتجريد بنية أو نموذج معرفي تكون ركيزته النص وبالتالى تتحول أجزاء النص التى قد تبدو مبعثرة إلى كل متماسك. (اللغة والمجاز 18)
فعلى سبيل المثال إذا قمنا بتحليل الصورة المجازية الواردة فى الرواية سنجدها تدور من خلال عدة صورة تتبدل بين عدة حتميات خارجية تاريخية واقتصادية وداخلية شهوة الجسد والجنس.
حينما انتقل حسين إلى وظيفته الجديدة وفى لحظة تأمل يهرب بها من ثقل أفكارة وهو فى القطار المتجه إلى "طنطا" مكان وظيفته. ينتقل من تأملاته الداخلية إلى العالم, "المشهد خارج القطار حيث الحقول تترامى حتى الأفق، والخضرة يانعة، بهيجة، ناضرة، تميل رؤسها مع الهواء فى موجات متصلة، وهناك فلاحون وثيران تبدو كالدمى، وسوائم ترعى، (كل شئ طبيعي ويسير فى تناغم وحبور تام)، ومر القطار بجدول صاف، ذابت أشعة الشمس على سطحه.. وأسلاك البرق الممتده، فى أمواج متصلة، تشملها حركة منتظمة، تتسق مع سير حركة القطار الآلية الرتيبة، (فهو جزء من القطار، الذى هو جزء من الطبيعة، جزء من الكون الذي يشملهم جميعا ، ينطلق إلى الأمام مدفوعا بقوى خارجية) وفوق هذا كله سماء الخريف، متلفعة ببياض شاحب، ينحسر ويسدل ستاره عليهم. وهى صورة مجازية عن الكون الذى تشمله حركة، آلية، دائمة ومستمرة، تختزل المسافات والمستويات والمساحات، فالأجزاء ملتصقة ومتلاحمة ببعضها وكل شئ متناغم مع الطبيعة الأم، ثم مد بصره إلى الأرض المنبسطة، (عاد مرة أخرى إلى الطبيعة) الصامتة، الصابرة التى تعطى بسخاء، فذكر دون وعي أمه، كهذه الأرض/الطبيعة/الأم الصامدة فى مواجهة أدواء الزمن، فهي كالأرض حميمة وصابرة تعطى أيضا بلا حدود ولكنها تقف أمام الدهر كما هو الحال مع الطبيعة الجامدة دون أية مقدرة سوى الجلد والصمود أمام عوامل الزمن الذي يحرثها بأسنانه.
وصورة أخرى مجازية عن الأم مستمدة من الطبيعة: فالحق أن أمه بين النساء "كألمانيا" بين الدول قادرة على الاستفادة من كل شيء ولو كان زبالة! وكما نعرف عن ألمانيا بإجراءاتها العقلية الرشيدة وتطبيق المنهج الآلي ليس فقط فى الإنتاج ولكن على البشر أنفسهم. فالأم أيضا كانت تستخدم الأشياء وتعيد تدويرها، وتُوجّه حياة عائلتها بعقلية اقتصادية رشيدة: "ترقع البنطلون حتى إذا بلغ اليأس قلبته، ثم إذا اهترئ تقص أطرافه ليصبح سروالا داخليا، وتستخدمه كخرقة للمسح، ولا تتركه حتى يفنى. كانت تستخدم أي شئ للتوفير والإقتصاد مدفوعة بقوى الحياة وقسوتها التى عضتهم بلا رحمة، وجعلت من الإقتصاد عقيدة لهم كألمانيا.
"حسنين ونفيسة": الجنس والأنانية.
"هكذا فى عناق الطبيعة، نعصف أو نهدأ، ننتهي، نبدأ"أدونيس
يعتقد الناس بأن لهم قيمة معينة وإذا ما عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك فإنهم يشعرون بإنفعال الغضب. وبالمقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم فإنهم يشعرون بالخجل. وأخيرا عندما يقيمون بشكل صحيح يتناسب مع قيمتهم، فإنهم يشعرون بالإعتزاز فرغبة "الإعتراف" والإنفعالات التى ترافقها -الغضب والخجل والإعتزاز- تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية. (فوكوياما)
"اللكمة القوية تستطيع أن تنتزع الإحترام وتفرضه فرضًا"
حسنين شخص عاطفي-أناني وانفعالى، غضوب حانق على كل شيء، تحركه انفعالاته، وينطلق من شعوره بذاته، ورؤية الآخر له، والإحساس بكرامته المهانة بدءا من أخيه "حسن" الذى سلك طريق الإجرام وأخته التى امتهنت "الخياطة" ولم يكن يرى فى مهنة أخته أي شيء من كرامة لكنه فى الوقت نفسه كان يقبل الأموال التى تنفحه إياها. لم ينظر إليها على أنها تضحى بكرامتها -إن كان فى امتهان الخياطة مذلة- فى سبيل ايجاد اللقمة واطعامه هو وأسرته.
ونفيسة فتاة بسيطة وأحلامها أيضا، -كأى فتاة فى مثل عمرها- تحلم بالحياة السعيدة فى بيت الزوج المناسب. لكن عندما مات الوالد تبدل العالم فى عينها، شعرت بالوحدة أكثر، وأنها خطت خطوة نحو هاويةٍ، فمن سيمازحها الآن، ومن سيجمّل المستقبل فى عينيها، ولما امتهنت الخياطة شعرت أنها سقطت، وأنها أمست فتاة أخرى، سقطت وابتلعتها الهوة، لأن كبريائها انجرح. "كانت فتاة محترمة فانقلبت خياطة" هكذا كانت نظرتها لنفسها. وكان من عقباتها أنها لا تتمتع بالجمال الكافى وكانت متأكدة من ذلك، تأكدا جعلها تحتقر نفسها. وتبدد حلم العريس فمن سيتكفل بمصاريف الجهاز، ومن سيحل مشكلة "قلة جمالها" ترزح تحت وطأة الفقر، تحتقر جسدها، تلعن الحياة وتتسائل: لماذا خلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء والمسكن؟
"فمن قال إنها تقيم فى القلب؟ الأرجح أنها تعشش فى العقل وهذا سر الجنون!"
حسنين، مدفوعا بحرارة عاطفته ومعميا بالرغبة الجائحة، تقدم لخطبة ابنة الجيران، ولم يرى أن الفتاة لم تكن تحبه، ولكنه استمالها بكل ما يمتلك من أساليب، فالرغبة تدفع البشر للبحث عن أشياء موجودة خارج ذواتهم بينما العقل والحساب يبينان لهم أفضل السبل للحصول عليها. (فوكوياما) وتجاهل حقيقة أنها لا تحبه بالقدر الكاف أو بالشكل الذى يريده، (لكن، ما الذى دفعها للقبول؟ أهي العادة، أم الظروف، أم الصدفة، أم القدر؟)، كان يرغب فيها بكل جوانحه ولكن رغباته كانت تتبدد أمام حائط صدها المنيع. وكان حبه لها نابعا من قوة طاغية، قوة ليس لعقله سلطان عليها، وفى داخله رغبة بالتماهى فى موضوع حبه، وكما كان حبه لها نابعا من قوة الرغبة كان انفصاله عنها كذلك. هل كان يحبها حقا؟ هل حبه ينطلق من رؤية انسانية؟ فإذا كان الدافع لحبه هو "اللذة" أو "الرغبة الجنسية" وليس الحب الإنسانى الذى ينطلق من فهم الآخر/الحبيب ومعرفته داخليا دون أي رغبة فى الإلتصاق به أو الذوبان فيه، كان انفصاله عنها لأنه يريد الزواج من "ابنة البك" ، فبعد أن تغير حاله قليلا لأنه أصبح طالبا فى الكلية الحربية، لم تعد "بهية" مقنعة بالنسبة له، فتحولت من مهجة القلب والروح ومنية العين، إلى "النوع البيتى"، "البلدي" ، "دقة قديمة" ولكنه كان يرغب فى الإنتقال إلى عالم آخر، عالم جديد يختلف عن عالم "بهية" التقليدي. ولم ينتبه إلى أن تلك الفتاة -والأسرة- وافقت عليه دون النظر إلى أسباب أخرى رغم المستوى المادى والمعيشى الذى أصبح فيه. لكنه، يرغب فى تحقيق رؤيته، ورؤيته نابعة من أفكار واحدية تتناسى جوانب الإنسان المركبه، رؤية تتجاهل انسانية الآخر ومشاعره. فالفتاة بالنسبة له مجرد جسد، أى شئ أو عاء يريده لإفراغ رغباته. فتخلى عنها ولفظها كما لو كان يلقى بقطعة ملابس على كرسي، شيئا لا قيمة له وليس انسانا له مشاعر ومن الممكن أن يتأذى نتيجة لذلك القرار المفاجئ!
فأحبته بلحمها وأعصابها ودمها وتعلقت به بقوة الأمل، وبقوة اليأس، ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها من الأعماق.
كانت نفيسة ذا حس منتقد، ساخر، لاذع السخرية والعبث الضاحك، الذى تتوارى خلفه مرارة فى الأعماق. وكانت تنسج فى خيالها قصص حب وغرام بين شخصيات خيالية. وقنعت بذلك نظرا لأنها ترى أن جمالها يضن عليها بأن تلقى الحب. وحين ظهر لها "سلمان" لم تقنع به مودة ولكن لم يكن بوسعها أن تنفر من انسان أيا كان إذا أبدى اليها ميلا، ولا يسعها إلا أن تحب من يحبها! انساقت وراء عاطفتها المشبوبة، بيأس، فليس هناك غير "سلمان" يطرق باب قلبها. واستغل سلمان ذلك فيها، فكان يعرف أنها يائسة، وعلى الرغم من "قلة جمالها" أراد أن يحظى بتلك الفرصة التى تتيح له "الممكن من الحب" فرغم "دمامتها" إلا أنها "أنثى تنتسب للجنس المحبوب العزيز المنال". كانت تريد السيطرة على "غريزتها" من خلال اطار ينتظمها وهو الزواج. لكن يأسها وقلة جمالها كان يكدران عليها صفو أيامها. فسلمان تاجر أو شبه تاجر أو كما قال: "ابن سوق" ويعرف الناس. ويعرف كيف ينتقى زبائنه ويبدو أن العلاقة تحولت لعملية تجارية تبادلية. كان البائع والمشترى فيها هو سلمان -التاجر الانتهازي الذى يعرف قيمة السلعة التى يشتريها ونفيسة الزبون الساذج الذى لا يعرف قيمة بضاعته.
"ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة.. هذه هي الحياة.. إذا ركبتها ركبت طبقة بأسرها"
حسنين بعد أن تغلب على ظروفه الإقتصادية حاول أن يتغلب على ظروفه الإجتماعية. تدفعه رغبة الإنتقال من طبقة إلى طبقة ليجمع بين عالم السلطة الذى تحقق بأن أصبح ضابطا وعالم الثروة الذى تبدى له من خلال مصاهرة "البك" صديق والده. عندما رأى ابنة البك، نفس الدافع الذى حركه ناحية بهية هو الذى دفعه بقوة ناحية ابنة البك. وتتجسد عنده تلك الرغبة عن طريق رؤية متطرفة وشبّه ذلك بالعلاقة الجنسية. فإذا تزوج منها وجمعتهما علاقة جنسية فإنه بذلك سيكون قد اعتلى (ركب) طبقة اجتماعية بأكملها وبذا يكون انتصر لنفسه ولرؤيته عن طريق اخضاعه للآخر، صراع الطبقات ينتهى بفوز الأقوى، الأحق والأجدر، فاخضاع الآخر لا يتم من خلال التواصل الإنسانى وإنما من خلال السلاح، أو العلاقة الجنسية ويصبح الجنس قيمة فى حد ذاته ويعلن من خلاله انتصاره على عالمه القديم وعلى عالم الآخر الثرى (وجسده المستباح). فعالم حسنين وصراعه ضد الآخر قائم على رؤية أنانية طفولية تستبيح الآخر فبعد أن تغلب على ظروفه الإقتصادية حاول أن يتغلب على ظروفه الإجتماعية وتنازعه أيضًا رغبة فى القضاء على ذكرياته، لأنها تذكره بماضيه الأسود. فترك "عطفة نصر الله" إلى عالمه الجديد، "شقة مدينة نصر"، وهي خطوة نحو التحرر من أعباء الماضى والهويه وأن ينسى أصله وتاريخه.
انساقت وراء عاطفتها المشبوبة، بيأس، ورغبة فى الحياة لا تموت إلا بالموت.
الصورة المتواترة "للظلام" فى البيت فهم جالسين معظم الوقت فى الظلمة التى تعكس الفقر مسدلة ستارا على الحالة المعيشية المتردية. وظلام الذكريات السود التى تطارد عقل حسنين. ظلام لحظات الضعف البشرى التى تحيط بالإنسان عند ارتكابه جريمة . "نفيسة" فى كل مرة تشبع غرائزها تهوى فى ظلمة لا قرار لها. سقطت نفيسة إذن فى براثن الجسد واصغت إلى نداءات الغريزة النهمة وأصبحت أسيرة لها. وهنا تتجسد الفكرة ويتجلى النموذج وتصل إلى نقطة النهاية واللاعودة، لحظة سقوطها مع سلمان, ثم تنطلق بعد ذلك فى العالم تدفعها الغريزة، بألم وقلق، فتهوى، وتسلك طريق البغاء، دون أن تدرى، تحت وطأة غرائزها مثلت بنفسها أفظع تمثيل، وكلما اشبعتها، كلما سقطت فريسة لها، ورضخت لما هو محتوم بلا مرجعية فعندما ينتهى التاريخ، تتساقط المرجعيات ويصبح كل شيء مباحا.
"أيمكن حقا أن يسدل عليها الستار دون أن تفوح منها رائحة حرية بأن يجعل من هذا العناء كله عبثا لا طائل منه!"
حسنين كان يتأرجح بين التمركز الشديد حول نفسه وتمركزا حول الموضوع وظهرت رغباته الدفينة فى الذوبان فى الموضوع/الطبيعة فى الحب أو السلطة أو الطبقة. وكل ما فعله حسنين هو اتباع القانون الحتمى بعقلانية شديدة . فعندما اكتشف سلوك أخته، وفى رغبة منه لمحو تلك الذكرى السوداء القاتمة، ساق اخته نحو حتفها ببرود شديد، فإذا كان دافعه هو "الشرف" فشرف له أن يمحى عاره بيديه، ولكنه لم يفعل، كان واقعا تحت تأثير لرؤيته الأنانية الغاشمة كل ما كان يهمه هو مركزه ورؤيته لنفسه فى عيون الآخر، كان يسوقها إلى الموت مثل شخصيات "كافكا" التى تسير إلى تنفيذ حكم الإعدام متماهية مع جلادها. وبدلا من أن تحاول نفيسة الهرب سلمت نفسها "لحتمية" الموت، "الموت الذى تنهب الأرض إليه باستسلام كأنه التخدير" كحل نهائي لكل مشاكلها.. بينما هو غارقا فى نفسه، يفكر هل ثمة مهرب؟ هل يمكن أن يسدل الستار دون أن يكون هناك منفذ للحرية؟ وكلما حاول ضميره أن يذكره بأفضالها عليه، شعر بالضيق والضجر وأسكته. ووصل إلى قناعة أن الموت خير نهاية لها. كان يسوقها إلى الموت شاعرا بنفسه أنه إله، لم يشفع لها تضحيتها من أجل عائلتها وأنها كانت تنفق عليه. كل ما كان يؤرقه هو منظره أمام الناس، وبينما أخته على حافة الجسر عاودته أفكاره مجددا، لحل مشكلته التى تؤرقه "مشكلة الحياة"، كل ما يفكر فيه هو ما الذى تفكر فيه هي وما هو شعورها لحظة مواجهتها للموت؟. ولكى يعرف يقينا كان عليه أن يجرب بنفسه! بلغ الموضع نفسه من الجسر.. وارتفق السور.. ألقى ببصره على الماء تتدافع أمواجه.. وأخلى رأسه من الفكر.. إذا أردت أن تعرف الموت.. هلم!
"وليس الموت بنهاية ولكنه بداية لتعاسة أخرى"
نسق مغلق، وأفق مسدود، فالإنسان إما خاضعا لظروفه الإقتصادية وأسيرا لحاجات المأكل والملبس والمسكن، أو منطلقا من أنانيته وغروره ليتغلب على ظروفه الإجتماعية فيستبيح الآخر، أو هائما وراء غرائزه الحيوانية. وبحسب هيجل الذى يرى أن النور الأول للحرية الإنسانية فى صراع الآخر وهزيمته واخضاعه لقانون الأقوى.. الذى لا بد أن يخضع وفقا لرؤى طفولية بالسيطرة والتحكم الكامل. طالما أن الهدف الأسمى هو القوة والاعتبار والكرامة أو الأنانية الطفولية. من أجل ذلك يقوم أو يدخل فى صراع مع الآخر ينتهى باخضاعه وتسويته.
وفى النسق المغلق دائما تتبدى اشكالية نهاية التاريخ، فالحركة الحتمية تكتسح كل شئ إلى أن تصل إلى "منتهاها" ونقطة تحققها ولحظتها النماذجية. ففى حالة نفيسة يتحول الموت من حتمية خارجية إلى حتمية داخلية. فإذا كان نمو الرغبة من الداخل دون تحكم من الفاعل الإنساني وإذا كان التغيير من الخارج دون تحكم منه أيضا فإن ثمة حتميات عليه أن يقبلها. إذ لا توجد عنده حرية اختيار. فلا بد مما ليس منه بد!
ولم تكن هناك صورة مجازية أفضل من الصورة المجازية للطبيعة عن والكلية الحربية كنظام مغلق يجسد عقلية "حسنين" ويطوره، وأن يصبح ضابطا، لترتسم فكرة الصراع الطبقى، ورؤية الآخر، كأرض مستباحه إذا تملكها بالقوة. ولم تكن هناك صورة أفضل من الظلمة الشاملة لتصوير كل الصراعات الداخلية ، وفى الأخير صورة النهر الطبيعي ونهر الزمن المندفق نحو الأمام، ليمحى آثار الماضى ويغسله، ويمحو آلام الذكريات الحزينة.
لكن فى الأخير نود أن نقول أن التاريخ عملية مستمرة لا تنتهي، والإنسان هو الذى يصنع التاريخ وليس العكس، ما دام أن هناك مثلا أعلى أو مركزا منفصلا عن المادة، أي مرجعية متجاوزة، يستطيع الإنسان تجاوز حتميات الطبيعة وتجاوز وضعه المادي من خلالها. ولكن إن حل المثل الأعلى فى المادة وأصبح الشغل الشاغل ليس إلا الرؤية الشخصية/الذاتية/المادية دون مرجعية متجاوزة، فإن المرجعية الكامنة تظهر وتسد الثغرات وتنغلق الدائرة ويصبح النسق آليا شبيها بحركة الآلة/الطبيعة وتكون نهايته فى بدايته.
فإذا كان كل شئ يمشى فى طريق مرسوم ومحسوب وفق خطة لقوى خارجية والإنسان إما أن يعيش رهنا لظروفه الإقتصادية المجحفة، قابعا فى الظلمة يلعن الحياة والقدر، وإما أن ينطلق من رؤيته التى يريد فرضها على الواقع فيخرج هائما رافعا سلاح الأنا والغرور ليغزو العالم ويخضعه لرغباته المتطرفة!
ويتخيل أنه يمكنه الفرار ولكنه يؤمن أنه لا مفر وأنها حتمية لا نهائية ولكنك تظن أن هناك حرية وتلك الحرية قد تكون فى النهاية هي اختيار امكانيات الحياة إلى نهايتها أي "الموت" وانهاء الحياة ولما كان الموت الذى هو "نهاية" الحتمية الخارجية وقمتها فإنه يتحول إلى حتمية داخلية. وتصبح بداية الرواية بالموت الطبيعي الحتمي ونهايتها بالإنتحار. وهكذا كانت بداية ونهاية.
بداية الأمر أي أوله، ونهايته أي منتهاه. ولما كانت "بداية ونهاية" مجردة من التعريف "ال" فهي بداية ونهاية أي مبتدأ الأمر ومنتهاه. ولكن بداية أي شيء ومنتهى ماذا؟ نقطة البداية والنهاية منفصلتين "أ" و "ب" (من وإلى) الميلاد والموت وبينهما خط فاصل هو الحياة حيث "أ" تؤدى بالضرورة وبالقوة الحتمية إلى "ب".
مطر.. مطر.. مطر..
بداية
حكاية عن أسرة مصرية "الوالد" كامل على موظف فى دائرة المعارف، "الأم" ربة منزل، ثلاثة أولاد وفتاة. حسن، حسين، حسنين، وبهية. تبدأ الحكاية بموت الوالد المفاجئ. فتفجع العائلة وتترك الحادثة وقعا فى نفس الشابان مما دعاهما للتساؤل عن فجائية الموت ووطأته ومن هنا تبدأ معاناة الأسرة فى مجاهل الحياة. حيث لا دخل لها بعد موت الوالد. كما أن اجراءات الحصول على المعاش معقده إلى أبعد الحدود. ولما كانت الأخت نفيسة من هواياتها استخدام ماكينة الخياطة فلم يكن هناك بُدّ من أن تمتهن "الخياطة" للعمل وكسب بعض القروش وهو ما اضطرها أسفًا إلى قبول مقابل مادي نظير عملها بعد أن كانت تقدمها كخدمة مجانية لجيرانها. وتعتبر نقطة مفصلية فى تغيير نظرتها لنفسها وللعالم. أما الأخ الأكبر "حسن" الذى كان يعول عليه أن يصبح رجل البيت بعد وفاة والده لم يردعه ذلك سوى مزيدا من اللهو والقصف والإنفلات أكثر وأكثر.. من البداية قاطع الدراسة ولم يكمل تعليمه ولم يرضى بالوظيفة الحكومية فليس لشيء عنده ذو قيمة سوى حريته حتى وإن كانت على حسابه وحساب أسرته، اتجه إلى الشارع، متخذا من المقاهي ملاذا والليل دثارا. وكما جاء وصفه فى الرواية أنه: "وثنيٌّ بالفطرة" لا يحتكم إلى أية مرجعية أخلاقية سوى القوة. أما حسنين شاب صغير مشبوب العاطفة تملأه رغبه فى التغيير، يشارك فى المظاهرات ضد الإنجليز، حاد الانفعالات ينطلق من كبرياء وعزة يحصن بهما نفسه في مواجهة العالم. ولكنه يخوض معكرة قلقة تهزه أفكاره، هل الرضوخ والإذعان للأمر الواقع أم محاولة تغييره، هل الاستسلام للأقدار أم مواجهتها والإنتصار عليها؟
حسين العقل وحكمة الرواقى
أما حسين فهو الجانب العقلاني-الهادئ بين تلك التمزقات يمينا ويسارا. غير حانق، تجوسه الأفكار هو الآخر، لكنه ليس مندفعا كأخيه، راض، يرفض الواقع رغبة فى تغييره، ليس عن إيمان عميق، وإنما لأنه يعرف أن الحنق لن يغير من الأمر شئ. يحب القراءة، ويحب الصمت، ولا يعلن شكوكه جهارا، اضطر إلى انهاء مرحلة التعليم عند البكالوريا (الثانوية) وبحث عن الوظيفة بمساعدة صديق والده، وقبلها لمساعدة عائلتهـ يعزوه شعورا بالتسليم والإطمئنان الظاهري، ولا يمنع أنه تجتاحه أحيانا، لحظات السخط والغضب لكنها لا تعدو عن كونها انفعالات داخلية أو حديث نفس، لكن الإتجاه العام لرؤيته هو التجلد: لنصبر أو فى الأقل نتظاهر بالصبر. لنغضب أو نسخط كما شئنا لن يغير ذلك من الأمر شيء. يسكن نفسه بعزاءه الوحيد: وهو أن هناك قوة أكبر منا جميعا تطحننا طحنا وتلتهمنا التهاما!
هناك علاقة سببية إذن بين موت الأب وتدهور المعيشة فليس هناك مصدرا للرزق سوى ما تقدمه الجيران من مساعدات والقروش التي توفرها "نفيسة" من الخياطة. ومساعدات "البك" صديق الوالد. يأتي بعد ذلك دور "الأم" وهي غير مسماة في الرواية سوى بالأم. كقيمة ثابتة ومطلقة بمثابة حلقة الربط، الركيزة الأساسية والمرجعية لأبنائها -ما عدا حسن ومع ذلك لم تنسه. فالأم رغم البؤس كانت تدبر وتدوّر وتوجّه وتنظّم وتقوم بترشيد استخدام كل الموارد المتاحة والممكنة لخدمة عائلتها. انتقلت إلى شقه أصغر من شقتهم لتوفر مبلغ الإيجار وتخلت ما استطاعت عن متاع بيتها، حتى فراش الزوجية، وقامت ببيعها. واستبدلت الكهرباء، بلمبات الجاز، الذى كان استخدامها محسوبا أيضا وكل ذلك لتوفير القروش لعائلتها.
وكما نرى والحال كهذه فالعائلة كانت تعانى من فاقة شديدة وضيق اليد. يمكنك أن تراهم يجلسون في الظلام طيلة الوقت توفيرا للكهرباء والكيروسين. وفى حالة تدبير متناهية، لا بد من الإقتصاد مهما كلفهم الأمر، مما كان يدفعهم إلى حافة الخوف والقلق، الخوف الذى كان يخيم على الأسرة مثل الظلام، خوف دائم من أن تزيد النفقات الضرورية على الإيراد المحدود، كأن يتعرض أحدهم للمرض، أو يجد من ناحية المدرسة طلب، أو تتعطل نفيسة عن الكسب فتتعطل بهذا الشكل حياتهم، أسرى للغذاء والكساء والمسكن، تحت وطأة الفقر ونير الظلام.
الصورة المجازية فى "الرواية" والإتجاه الخطى:
الصورة المجازية هى وسيلة إدراكية لتحليل النصوص وللواقع. يوجد داخل كل نص، مكتوب أو شفهي، نموذج كامن يستند إلى ركيزة أساسية، عادة ما تترجم نفسها إلى صورة مجازية، استخدمت بوعي أو بغير وعي، للتعبير عن هذا النموذج. ومن خلال قراءة النص ورصد أو ملاحظة الصور المجازية المتواترة خلال السياق وقراءة دلالتها، حتى يمكن تحليلها وربطها ببعضها البعض، من خلال عملية تفكيك وتركيب وتجريد بنية أو نموذج معرفي تكون ركيزته النص وبالتالى تتحول أجزاء النص التى قد تبدو مبعثرة إلى كل متماسك. (اللغة والمجاز 18)
فعلى سبيل المثال إذا قمنا بتحليل الصورة المجازية الواردة فى الرواية سنجدها تدور من خلال عدة صورة تتبدل بين عدة حتميات خارجية تاريخية واقتصادية وداخلية شهوة الجسد والجنس.
حينما انتقل حسين إلى وظيفته الجديدة وفى لحظة تأمل يهرب بها من ثقل أفكارة وهو فى القطار المتجه إلى "طنطا" مكان وظيفته. ينتقل من تأملاته الداخلية إلى العالم, "المشهد خارج القطار حيث الحقول تترامى حتى الأفق، والخضرة يانعة، بهيجة، ناضرة، تميل رؤسها مع الهواء فى موجات متصلة، وهناك فلاحون وثيران تبدو كالدمى، وسوائم ترعى، (كل شئ طبيعي ويسير فى تناغم وحبور تام)، ومر القطار بجدول صاف، ذابت أشعة الشمس على سطحه.. وأسلاك البرق الممتده، فى أمواج متصلة، تشملها حركة منتظمة، تتسق مع سير حركة القطار الآلية الرتيبة، (فهو جزء من القطار، الذى هو جزء من الطبيعة، جزء من الكون الذي يشملهم جميعا ، ينطلق إلى الأمام مدفوعا بقوى خارجية) وفوق هذا كله سماء الخريف، متلفعة ببياض شاحب، ينحسر ويسدل ستاره عليهم. وهى صورة مجازية عن الكون الذى تشمله حركة، آلية، دائمة ومستمرة، تختزل المسافات والمستويات والمساحات، فالأجزاء ملتصقة ومتلاحمة ببعضها وكل شئ متناغم مع الطبيعة الأم، ثم مد بصره إلى الأرض المنبسطة، (عاد مرة أخرى إلى الطبيعة) الصامتة، الصابرة التى تعطى بسخاء، فذكر دون وعي أمه، كهذه الأرض/الطبيعة/الأم الصامدة فى مواجهة أدواء الزمن، فهي كالأرض حميمة وصابرة تعطى أيضا بلا حدود ولكنها تقف أمام الدهر كما هو الحال مع الطبيعة الجامدة دون أية مقدرة سوى الجلد والصمود أمام عوامل الزمن الذي يحرثها بأسنانه.
وصورة أخرى مجازية عن الأم مستمدة من الطبيعة: فالحق أن أمه بين النساء "كألمانيا" بين الدول قادرة على الاستفادة من كل شيء ولو كان زبالة! وكما نعرف عن ألمانيا بإجراءاتها العقلية الرشيدة وتطبيق المنهج الآلي ليس فقط فى الإنتاج ولكن على البشر أنفسهم. فالأم أيضا كانت تستخدم الأشياء وتعيد تدويرها، وتُوجّه حياة عائلتها بعقلية اقتصادية رشيدة: "ترقع البنطلون حتى إذا بلغ اليأس قلبته، ثم إذا اهترئ تقص أطرافه ليصبح سروالا داخليا، وتستخدمه كخرقة للمسح، ولا تتركه حتى يفنى. كانت تستخدم أي شئ للتوفير والإقتصاد مدفوعة بقوى الحياة وقسوتها التى عضتهم بلا رحمة، وجعلت من الإقتصاد عقيدة لهم كألمانيا.
"حسنين ونفيسة": الجنس والأنانية.
"هكذا فى عناق الطبيعة، نعصف أو نهدأ، ننتهي، نبدأ"أدونيس
يعتقد الناس بأن لهم قيمة معينة وإذا ما عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك فإنهم يشعرون بإنفعال الغضب. وبالمقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم فإنهم يشعرون بالخجل. وأخيرا عندما يقيمون بشكل صحيح يتناسب مع قيمتهم، فإنهم يشعرون بالإعتزاز فرغبة "الإعتراف" والإنفعالات التى ترافقها -الغضب والخجل والإعتزاز- تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية. (فوكوياما)
"اللكمة القوية تستطيع أن تنتزع الإحترام وتفرضه فرضًا"
حسنين شخص عاطفي-أناني وانفعالى، غضوب حانق على كل شيء، تحركه انفعالاته، وينطلق من شعوره بذاته، ورؤية الآخر له، والإحساس بكرامته المهانة بدءا من أخيه "حسن" الذى سلك طريق الإجرام وأخته التى امتهنت "الخياطة" ولم يكن يرى فى مهنة أخته أي شيء من كرامة لكنه فى الوقت نفسه كان يقبل الأموال التى تنفحه إياها. لم ينظر إليها على أنها تضحى بكرامتها -إن كان فى امتهان الخياطة مذلة- فى سبيل ايجاد اللقمة واطعامه هو وأسرته.
ونفيسة فتاة بسيطة وأحلامها أيضا، -كأى فتاة فى مثل عمرها- تحلم بالحياة السعيدة فى بيت الزوج المناسب. لكن عندما مات الوالد تبدل العالم فى عينها، شعرت بالوحدة أكثر، وأنها خطت خطوة نحو هاويةٍ، فمن سيمازحها الآن، ومن سيجمّل المستقبل فى عينيها، ولما امتهنت الخياطة شعرت أنها سقطت، وأنها أمست فتاة أخرى، سقطت وابتلعتها الهوة، لأن كبريائها انجرح. "كانت فتاة محترمة فانقلبت خياطة" هكذا كانت نظرتها لنفسها. وكان من عقباتها أنها لا تتمتع بالجمال الكافى وكانت متأكدة من ذلك، تأكدا جعلها تحتقر نفسها. وتبدد حلم العريس فمن سيتكفل بمصاريف الجهاز، ومن سيحل مشكلة "قلة جمالها" ترزح تحت وطأة الفقر، تحتقر جسدها، تلعن الحياة وتتسائل: لماذا خلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء والمسكن؟
"فمن قال إنها تقيم فى القلب؟ الأرجح أنها تعشش فى العقل وهذا سر الجنون!"
حسنين، مدفوعا بحرارة عاطفته ومعميا بالرغبة الجائحة، تقدم لخطبة ابنة الجيران، ولم يرى أن الفتاة لم تكن تحبه، ولكنه استمالها بكل ما يمتلك من أساليب، فالرغبة تدفع البشر للبحث عن أشياء موجودة خارج ذواتهم بينما العقل والحساب يبينان لهم أفضل السبل للحصول عليها. (فوكوياما) وتجاهل حقيقة أنها لا تحبه بالقدر الكاف أو بالشكل الذى يريده، (لكن، ما الذى دفعها للقبول؟ أهي العادة، أم الظروف، أم الصدفة، أم القدر؟)، كان يرغب فيها بكل جوانحه ولكن رغباته كانت تتبدد أمام حائط صدها المنيع. وكان حبه لها نابعا من قوة طاغية، قوة ليس لعقله سلطان عليها، وفى داخله رغبة بالتماهى فى موضوع حبه، وكما كان حبه لها نابعا من قوة الرغبة كان انفصاله عنها كذلك. هل كان يحبها حقا؟ هل حبه ينطلق من رؤية انسانية؟ فإذا كان الدافع لحبه هو "اللذة" أو "الرغبة الجنسية" وليس الحب الإنسانى الذى ينطلق من فهم الآخر/الحبيب ومعرفته داخليا دون أي رغبة فى الإلتصاق به أو الذوبان فيه، كان انفصاله عنها لأنه يريد الزواج من "ابنة البك" ، فبعد أن تغير حاله قليلا لأنه أصبح طالبا فى الكلية الحربية، لم تعد "بهية" مقنعة بالنسبة له، فتحولت من مهجة القلب والروح ومنية العين، إلى "النوع البيتى"، "البلدي" ، "دقة قديمة" ولكنه كان يرغب فى الإنتقال إلى عالم آخر، عالم جديد يختلف عن عالم "بهية" التقليدي. ولم ينتبه إلى أن تلك الفتاة -والأسرة- وافقت عليه دون النظر إلى أسباب أخرى رغم المستوى المادى والمعيشى الذى أصبح فيه. لكنه، يرغب فى تحقيق رؤيته، ورؤيته نابعة من أفكار واحدية تتناسى جوانب الإنسان المركبه، رؤية تتجاهل انسانية الآخر ومشاعره. فالفتاة بالنسبة له مجرد جسد، أى شئ أو عاء يريده لإفراغ رغباته. فتخلى عنها ولفظها كما لو كان يلقى بقطعة ملابس على كرسي، شيئا لا قيمة له وليس انسانا له مشاعر ومن الممكن أن يتأذى نتيجة لذلك القرار المفاجئ!
فأحبته بلحمها وأعصابها ودمها وتعلقت به بقوة الأمل، وبقوة اليأس، ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها من الأعماق.
كانت نفيسة ذا حس منتقد، ساخر، لاذع السخرية والعبث الضاحك، الذى تتوارى خلفه مرارة فى الأعماق. وكانت تنسج فى خيالها قصص حب وغرام بين شخصيات خيالية. وقنعت بذلك نظرا لأنها ترى أن جمالها يضن عليها بأن تلقى الحب. وحين ظهر لها "سلمان" لم تقنع به مودة ولكن لم يكن بوسعها أن تنفر من انسان أيا كان إذا أبدى اليها ميلا، ولا يسعها إلا أن تحب من يحبها! انساقت وراء عاطفتها المشبوبة، بيأس، فليس هناك غير "سلمان" يطرق باب قلبها. واستغل سلمان ذلك فيها، فكان يعرف أنها يائسة، وعلى الرغم من "قلة جمالها" أراد أن يحظى بتلك الفرصة التى تتيح له "الممكن من الحب" فرغم "دمامتها" إلا أنها "أنثى تنتسب للجنس المحبوب العزيز المنال". كانت تريد السيطرة على "غريزتها" من خلال اطار ينتظمها وهو الزواج. لكن يأسها وقلة جمالها كان يكدران عليها صفو أيامها. فسلمان تاجر أو شبه تاجر أو كما قال: "ابن سوق" ويعرف الناس. ويعرف كيف ينتقى زبائنه ويبدو أن العلاقة تحولت لعملية تجارية تبادلية. كان البائع والمشترى فيها هو سلمان -التاجر الانتهازي الذى يعرف قيمة السلعة التى يشتريها ونفيسة الزبون الساذج الذى لا يعرف قيمة بضاعته.
"ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة.. هذه هي الحياة.. إذا ركبتها ركبت طبقة بأسرها"
حسنين بعد أن تغلب على ظروفه الإقتصادية حاول أن يتغلب على ظروفه الإجتماعية. تدفعه رغبة الإنتقال من طبقة إلى طبقة ليجمع بين عالم السلطة الذى تحقق بأن أصبح ضابطا وعالم الثروة الذى تبدى له من خلال مصاهرة "البك" صديق والده. عندما رأى ابنة البك، نفس الدافع الذى حركه ناحية بهية هو الذى دفعه بقوة ناحية ابنة البك. وتتجسد عنده تلك الرغبة عن طريق رؤية متطرفة وشبّه ذلك بالعلاقة الجنسية. فإذا تزوج منها وجمعتهما علاقة جنسية فإنه بذلك سيكون قد اعتلى (ركب) طبقة اجتماعية بأكملها وبذا يكون انتصر لنفسه ولرؤيته عن طريق اخضاعه للآخر، صراع الطبقات ينتهى بفوز الأقوى، الأحق والأجدر، فاخضاع الآخر لا يتم من خلال التواصل الإنسانى وإنما من خلال السلاح، أو العلاقة الجنسية ويصبح الجنس قيمة فى حد ذاته ويعلن من خلاله انتصاره على عالمه القديم وعلى عالم الآخر الثرى (وجسده المستباح). فعالم حسنين وصراعه ضد الآخر قائم على رؤية أنانية طفولية تستبيح الآخر فبعد أن تغلب على ظروفه الإقتصادية حاول أن يتغلب على ظروفه الإجتماعية وتنازعه أيضًا رغبة فى القضاء على ذكرياته، لأنها تذكره بماضيه الأسود. فترك "عطفة نصر الله" إلى عالمه الجديد، "شقة مدينة نصر"، وهي خطوة نحو التحرر من أعباء الماضى والهويه وأن ينسى أصله وتاريخه.
انساقت وراء عاطفتها المشبوبة، بيأس، ورغبة فى الحياة لا تموت إلا بالموت.
الصورة المتواترة "للظلام" فى البيت فهم جالسين معظم الوقت فى الظلمة التى تعكس الفقر مسدلة ستارا على الحالة المعيشية المتردية. وظلام الذكريات السود التى تطارد عقل حسنين. ظلام لحظات الضعف البشرى التى تحيط بالإنسان عند ارتكابه جريمة . "نفيسة" فى كل مرة تشبع غرائزها تهوى فى ظلمة لا قرار لها. سقطت نفيسة إذن فى براثن الجسد واصغت إلى نداءات الغريزة النهمة وأصبحت أسيرة لها. وهنا تتجسد الفكرة ويتجلى النموذج وتصل إلى نقطة النهاية واللاعودة، لحظة سقوطها مع سلمان, ثم تنطلق بعد ذلك فى العالم تدفعها الغريزة، بألم وقلق، فتهوى، وتسلك طريق البغاء، دون أن تدرى، تحت وطأة غرائزها مثلت بنفسها أفظع تمثيل، وكلما اشبعتها، كلما سقطت فريسة لها، ورضخت لما هو محتوم بلا مرجعية فعندما ينتهى التاريخ، تتساقط المرجعيات ويصبح كل شيء مباحا.
"أيمكن حقا أن يسدل عليها الستار دون أن تفوح منها رائحة حرية بأن يجعل من هذا العناء كله عبثا لا طائل منه!"
حسنين كان يتأرجح بين التمركز الشديد حول نفسه وتمركزا حول الموضوع وظهرت رغباته الدفينة فى الذوبان فى الموضوع/الطبيعة فى الحب أو السلطة أو الطبقة. وكل ما فعله حسنين هو اتباع القانون الحتمى بعقلانية شديدة . فعندما اكتشف سلوك أخته، وفى رغبة منه لمحو تلك الذكرى السوداء القاتمة، ساق اخته نحو حتفها ببرود شديد، فإذا كان دافعه هو "الشرف" فشرف له أن يمحى عاره بيديه، ولكنه لم يفعل، كان واقعا تحت تأثير لرؤيته الأنانية الغاشمة كل ما كان يهمه هو مركزه ورؤيته لنفسه فى عيون الآخر، كان يسوقها إلى الموت مثل شخصيات "كافكا" التى تسير إلى تنفيذ حكم الإعدام متماهية مع جلادها. وبدلا من أن تحاول نفيسة الهرب سلمت نفسها "لحتمية" الموت، "الموت الذى تنهب الأرض إليه باستسلام كأنه التخدير" كحل نهائي لكل مشاكلها.. بينما هو غارقا فى نفسه، يفكر هل ثمة مهرب؟ هل يمكن أن يسدل الستار دون أن يكون هناك منفذ للحرية؟ وكلما حاول ضميره أن يذكره بأفضالها عليه، شعر بالضيق والضجر وأسكته. ووصل إلى قناعة أن الموت خير نهاية لها. كان يسوقها إلى الموت شاعرا بنفسه أنه إله، لم يشفع لها تضحيتها من أجل عائلتها وأنها كانت تنفق عليه. كل ما كان يؤرقه هو منظره أمام الناس، وبينما أخته على حافة الجسر عاودته أفكاره مجددا، لحل مشكلته التى تؤرقه "مشكلة الحياة"، كل ما يفكر فيه هو ما الذى تفكر فيه هي وما هو شعورها لحظة مواجهتها للموت؟. ولكى يعرف يقينا كان عليه أن يجرب بنفسه! بلغ الموضع نفسه من الجسر.. وارتفق السور.. ألقى ببصره على الماء تتدافع أمواجه.. وأخلى رأسه من الفكر.. إذا أردت أن تعرف الموت.. هلم!
"وليس الموت بنهاية ولكنه بداية لتعاسة أخرى"
نسق مغلق، وأفق مسدود، فالإنسان إما خاضعا لظروفه الإقتصادية وأسيرا لحاجات المأكل والملبس والمسكن، أو منطلقا من أنانيته وغروره ليتغلب على ظروفه الإجتماعية فيستبيح الآخر، أو هائما وراء غرائزه الحيوانية. وبحسب هيجل الذى يرى أن النور الأول للحرية الإنسانية فى صراع الآخر وهزيمته واخضاعه لقانون الأقوى.. الذى لا بد أن يخضع وفقا لرؤى طفولية بالسيطرة والتحكم الكامل. طالما أن الهدف الأسمى هو القوة والاعتبار والكرامة أو الأنانية الطفولية. من أجل ذلك يقوم أو يدخل فى صراع مع الآخر ينتهى باخضاعه وتسويته.
وفى النسق المغلق دائما تتبدى اشكالية نهاية التاريخ، فالحركة الحتمية تكتسح كل شئ إلى أن تصل إلى "منتهاها" ونقطة تحققها ولحظتها النماذجية. ففى حالة نفيسة يتحول الموت من حتمية خارجية إلى حتمية داخلية. فإذا كان نمو الرغبة من الداخل دون تحكم من الفاعل الإنساني وإذا كان التغيير من الخارج دون تحكم منه أيضا فإن ثمة حتميات عليه أن يقبلها. إذ لا توجد عنده حرية اختيار. فلا بد مما ليس منه بد!
ولم تكن هناك صورة مجازية أفضل من الصورة المجازية للطبيعة عن والكلية الحربية كنظام مغلق يجسد عقلية "حسنين" ويطوره، وأن يصبح ضابطا، لترتسم فكرة الصراع الطبقى، ورؤية الآخر، كأرض مستباحه إذا تملكها بالقوة. ولم تكن هناك صورة أفضل من الظلمة الشاملة لتصوير كل الصراعات الداخلية ، وفى الأخير صورة النهر الطبيعي ونهر الزمن المندفق نحو الأمام، ليمحى آثار الماضى ويغسله، ويمحو آلام الذكريات الحزينة.
لكن فى الأخير نود أن نقول أن التاريخ عملية مستمرة لا تنتهي، والإنسان هو الذى يصنع التاريخ وليس العكس، ما دام أن هناك مثلا أعلى أو مركزا منفصلا عن المادة، أي مرجعية متجاوزة، يستطيع الإنسان تجاوز حتميات الطبيعة وتجاوز وضعه المادي من خلالها. ولكن إن حل المثل الأعلى فى المادة وأصبح الشغل الشاغل ليس إلا الرؤية الشخصية/الذاتية/المادية دون مرجعية متجاوزة، فإن المرجعية الكامنة تظهر وتسد الثغرات وتنغلق الدائرة ويصبح النسق آليا شبيها بحركة الآلة/الطبيعة وتكون نهايته فى بدايته.
فإذا كان كل شئ يمشى فى طريق مرسوم ومحسوب وفق خطة لقوى خارجية والإنسان إما أن يعيش رهنا لظروفه الإقتصادية المجحفة، قابعا فى الظلمة يلعن الحياة والقدر، وإما أن ينطلق من رؤيته التى يريد فرضها على الواقع فيخرج هائما رافعا سلاح الأنا والغرور ليغزو العالم ويخضعه لرغباته المتطرفة!
ويتخيل أنه يمكنه الفرار ولكنه يؤمن أنه لا مفر وأنها حتمية لا نهائية ولكنك تظن أن هناك حرية وتلك الحرية قد تكون فى النهاية هي اختيار امكانيات الحياة إلى نهايتها أي "الموت" وانهاء الحياة ولما كان الموت الذى هو "نهاية" الحتمية الخارجية وقمتها فإنه يتحول إلى حتمية داخلية. وتصبح بداية الرواية بالموت الطبيعي الحتمي ونهايتها بالإنتحار. وهكذا كانت بداية ونهاية.
تعليقات
إرسال تعليق