اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود.
اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود.
اللغة هى أصوات
وكلام مُصْطَلَح عليه بين كُلّ قَوم يُعبِّرون به عن أَغراضهم. يتواصلون بها ومن خلالها عن طريق "كلمات"
هى من شمائل معجمهم اللغوى, ثم يتم ربط الكلمات ودمجها بأشياء فى داخل النفس وبين
أشياء خارجية فتتشكل على هيئة جمل وعبارات.
والمجاز في اللغة
هو التجاوز والتعدّي. وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى
مرجوح بقرينة. أي أن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له علاقة غير مباشرة
بالمعنى الحرفي. وهو جميع الصور والتشبيهات
والتركيبات اللغوية التى يتم التعبير بها عن رؤى وأفكار الإنسان.
والصورة المجازية هى وسيلة إدراكية لتحليل النصوص وللواقع. حيث
يوجد داخل كل نص، مكتوب أو شفهي، نموذج كامن يستند إلى ركيزة أساسية، عادة ما
تترجم نفسها إلى صورة مجازية، استخدمت بوعي أو بغير وعي، للتعبير عن هذا النموذج.
ومن خلال قراءة النص ورصد أو ملاحظة الصور المجازية المتواترة خلال السياق وقراءة
دلالتها، يمكن إذن تحليلها وربطها ببعضها البعض، من خلال عملية تفكيك (وهى علاقة
تفاعلية بين القارئ والنص) وتركيب وتجريد بنية أو نموذج معرفي تكون ركيزته الأساسبة
"النص" وبالتالى تتحول أجزاء النص التى قد تبدو مبعثرة إلى كل متماسك.
ومما لاشك فيه أن كل وجهة نظر، قائمة على
رؤية، أو عدة رؤى، تكون نتيجة لوعي الإنسان بالطبيعة وبذاته، وتتبلور من
خلال مقولات أو نصوص تعبر عن أزمة أو مشكلة فكرية, وهي محاولة منه للتفسير واضفاء المعنى على ما
يمر به, فقد يأخذ ذلك التعبير شكل الخاطرة أو المقال أو دراسة وكلها من النصوص. ولما
كان كل نص أدبي جيد هو عمل فني، ويتناول فى موضوعه ثلاثة عناصر أساسية: الإله والطبيعة
والإنسان. وتتوقف جودة العمل الفنى على مدى تفاعل العناصر الثلاثة من خلال علاقة إتصال
و إنفصال، وفى التاثير على الرؤية الإنسانية ككل. وأي منها يشكل الركيزة الأساسية
أو المرجعية. وتتشكل تلك النقطة من خلال مصطلحات ومقولات مركبة يستخدمها الإنسان
لتفسير الواقع وبلورة رؤيته. فالمصطلحات لا توجد فى فراغ، وإنما داخل أطر
ادراكية تجسد صورا مجازية، أو فيما يسميه الدكتور المسيري بالنماذج المعرفية.
فالنمو ج إذن هو بنية
تصورية يجردها عقل الإنسان من كم ضخم من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وتتمثل
فى التفاعل القائم بين المفسر (الإنسان) الذى يرصد التفاصيل والحقائق والوقائع،
فيستبعد بعضها باعتبارها غير دالة (من وجهة نظرة)، ويستبقى البعض الآخر، ثم يربط
بينها وينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح (حسب تصوره) مترابطة، ومماثلة فى ترابطها
للعلاقات الموجودة بين عناصر الواقع أو النص محل الدراسة.
والنماذج المعرفية التي يتم تجريدها تطرح أسئلة كلية عن
الإنسان والطبيعة والإله: هل الإنسان جزء لا يتجزء من الطبيعة/المادة تسرى عليه ما
يسري على الطبيعة من قوانين؟ أم أنه جزء من الطبيعة لكنه لا يلتصق بها وينفصل عنها
أي أنه جسد وروح، مادة وشئ آخر؟ هل هناك هدف من الوجود الإنساني في الطبيعة؟
هل هناك غرض في الطبيعة، أم أنها حركة دائمة ومتكررة، أو حركة متطورة نحو درجات أعلى
من النمو والتقدم، أم أنها حركة نتيجة المصادفة، بلا غاية أو هدف وبلا معنى أيضا؟ هل هناك معيارية في الوجود؟
ومن أين يستمد الإنسان معياريته، هل من العوامل الإقتصادية، وحاجة الإنسان للغذاء
والملبس والمسكن الآمن، أم أنها عوامل طبيعية، قائمة على صراع الإنسان ضد الطبيعة
وصراعه ضد الآخر (الإنسان ضد الإنسان). هل حياة الإنسان تدور بين عدة حتميات
اقتصادية أو اجتماعية أو طبيعية تاريخانية؟ أم أن الإنسان كائن حر يصنع التاريخ ولديه
مقدرة على تجاوز واقعه المادى؟ وكلها تساؤلات تدور وفق نماذج معرفية يتم تسميتها
وفقا لصاحب الرؤية فهي إما تستند إلى تفسير طبيعيى/مادي، أحادى الجانب فتستخدم
الصور المجازية المعبرة عن تلك الرؤى أو أنها تستند إلى ثنائيات تتجاوز الطبيعة
المادية: الخالق والمخلوق، الإنسان
الطبيعى/الإنسان الرباني، الحرية الإنسانية/الحتمية التاريخية. وفى الأخير يتم
التعبير عنها بصور مجازية.
كيفية الحكم على النماذج المعرفية؟
يتم اختبار النموذج من خلال اكتشاف مقدرته التفسيرية
والتصنيفية. هل هى تقدم تفسيرا يأخذ فى الإعتبار جوانب متعددة شبه متكاملة عن
الظاهرة أم أنها تهمل جوانب رئيسية على حساب أخرى غير جوهرية. فإن تمكن النموذج من
تفسير جوانب أشمل وأوسع عن الواقع، بحيث يفوق ما تفسره النماذج الأخرى، فهو
"أكثر تفسيرية" منها، وهى بالتالي "أقل تفسيرية" منه. وهى نفس
طريقة المسيري فى الوصول إلى المعرفة فهو يصل إلى الحقيقة من خلال تحليل الرؤى
وليس من خلال رؤية أحادية -خطية، يفرضها على النص أو على الواقع.
يطرح الدكتور المسيري رؤيته ويناقش من خلالها أهم
ظاهرتين تجسد الفكر الغربي بحسب دراسته وأيضا لأنها الفلسفة المسيطرة التي تفرض سطوتها
على العالم. وهو ينطلق من نفس المقدمات التى ينطلق منها المفكرين الغربيين ولكنه
يصل إلى نتائج تختلف عن ما وصلوا إليه ويتم ذلك من خلال تحليل تلك الرؤى والأفكار
التى تضمها وفى نفس الوقت يعطى مركزية للإنسان والقيم الإنسانية. ويناقش الصورتان
المجازيتان الأساسيتان فى الحضارة الغربية وهما "الصورة الآلية والصورة
العضوية".
الصورتان المجازيتان الأساسيتان فى الحضارة
الغربية:
الصورة الآلية والصورة العضوية
النموذج العضوي: تصور للعالم
على هيئة كائن حى، وحركته عضوية. والمبدأ الواحد الذي يسرى فى الكون ويحركه هو
مبدأ عضوى كامن فيه، تحتوى الظواهر على مصدر تماسكها ومبدأ نموها وحركتها ومقومات
وجودها وحياتها وموتها، وركيزتها الأساسية وكل ما يلزم لفهمها. والإله يشار إليه
بأنه روح العالم أو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيه.
النموذج الآلى: تصور العالم
على هيئة آلة، فى حركة دائمة، يحركها مبدأ واحد، إلا أنه ليس كامنا فى الكون،
فالظواهر تنمو بقوة دفع خارجية، تسير بغير تدخل عقل أو توجيه بعد أن يحركها المحرك
الأول. فالعالم يشبه الساعه والإله يشبه صانع الساعة الذى يضبطها ويتركها تعمل دون
تدخل منه.
ويميز المسيرى بين عدة تفرعات يمكن أن يأخذها النموذج:
فالنموذج العضوى قد يتأرجح بين كونه نموذجا عضويا متمركزا حول الإنسان، وآخر متمركزا
حول الطبيعة، أما النماذج الآلية فهي دائما متمركزة حول الطبيعة/المادة. والنموذج
العضوى المتمركز حول الإنسان، رغم ماديته، يمنح الإنسان قداسة ومركزية وبالتالى
يوجد قدرا من الثنائية فى العالم يمكن ان تنقذ الإنسان من هوة الواحدية والعدمية.
ويلاحظ أن الحركات الشمولية (النازية -الصهيونية- الماركسية) تدور فى إطار
النماذج العضوية، وكذا الفكر العرقى الغربي وأدبيات الإمبريالية، أما الليبرالية
فتتأرجح بين نموذج عضوي شمولى ونموذج آلي.
ويستخلص أن كلا النموذجين رغم تعارضهما الظاهري، متقاربان داخل إطار
المرجعية المادية الكامنة. بحيث يقفلان النسق ولا يحققان أي قدر من التجاوز، فكلاهما
نظام شمولى مغلق، وقانونه لا يفرق بين الطبيعة والإنسان، يسير وفقا لقوانين معروفة
بشكل مسبق وحتمي، فإذا كان النمو من الداخل (النموذج العضوى) دون تحكم من الفاعل
الإنسانى، وكان التغيير من الخارج (النموذج الآلى) دون تحكم منه أيضا، فإن ثمة
حتميات عليه تقبلها، إذ لا توجد عنده حرية اختيار. وإن حدث صراع فحينما يعود الإنسان
إلى الطبيعة العضوية فإنه يذوب فيها وسيحسم الصراع بقوانين النمو، تماما مثل خضوعة
لقوانين الحركة التى ستؤدى فى نهاية الأمروبشكل حتمى إلى الإنسجام.
والصور المجازية فى الحضارة الحديثة خليط من العضوية والآلية أو تأرجح
بينهما ولعل الفارق بينهما هو أن الطبيعة لا يمكن فهمها تماما ويمكن أن يلاحظ ذلك أي
متابع لمسلسل المخلص Messiah"" أو المسيح فنجد مثلا
العواصف والفيضانات ولفظ البحر للسمك ليموت على الشاطئ كلها أمور غير مفهومة،
وبالرغم من أن العجوز والد البطلة كان يفهمها من خلال عواطفه التى تجعله يشعر بالطبيعة
وكأنه جزء متصل لا ينفصل عنها، يذوب فيها.. فتظل أيضا غير مفهومة لأنها مليئة
بالأسرار التى لن يدركها إلا محركها الأساسي أو بالإتحاد معها والذوبان فيها.
على عكس الطبيعة الآلية التى يمكن فهمها، ولذا فإن ما يطلب من المرء فى
الإطار الآلى هو أن يتبع الطبيعة بعقلانية شديدة، ويذوب فيها ببرود شديد. ويمكننا
أن نأخذ رواية بداية ونهاية كنموذج. أو رواية بندول فوكو كنموذج للتأرجح بين
النموذجين. ويبدو أن اشكالية نهاية التاريخ كامنة فى كلا النسقين. فالحركة الحتمية
المستمرة تكتسح كل شئ، إلى أن تصل إلى منتهاها ونقطة تحققها ولحظتها النماذجية.
ففى حالة حالة نفيسة وحسنين يكون نهاية التاريخ بانتحارهما وهى الرغبة، أو النزعة
الجنينية الكامنة، التى تدفع الإنسان إلى الإتحاد بالطبيعة الأم. كما أن فى المسلسل
تتأرجح أفكاره بين العضوية والآلية بحيث تصبح "نهاية التاريخ" هى
المنطلق الذى تدور من خلاله الأحداث، الذي يطلب من العالم العربي أن يتقدم إلى
الأمام دون وجهه أو غاية سوى أن يتخلى عن موقفه المتشبث تجاه "الدولة
الصهيونية"، أما فى الغرب الذى لم يطلب منه أي شئ فهو جاهز للسير فى أي
اتجاه، ففي نهاية التاريخ عندما يحل الإله فى الكون، فى الشعب، أو المسيح "المخلّص"
الذى يجوب العالم ليجمع البشر فى شعب واحد عضوي، يسير فى لحمة طبيعية كنبات بلا
ساق ولا ثمر ولكنه ينمو ويتمدد، أفقيا أو رأسيا، فلا تعرف أين يقف إو إلى أين يذهب
أو من أين يمكن أن ينطلق، طريقة عشوائية غير مفهومة، أو أنها مفهومة ذاتيا، لا
يفهمها إلا صاحبها، فالمعنى لم يعد فى بطن الشاعر ولكن أصبح فى بطن الزير! أي فى
مكان غير معلوم تماما. فالحركة تنمو من الداخل تدفعهم فى الأخير نحو الخلاص
والإتساق التام، الحتمي والشامل، فليس
هناك تجاوز يمكن للإنسان من خلاله أن يتطلع إلى عالم آخر، فكل شئ سيحسم هنا والآن
بعد أن يتخلى الجميع عن معتقداتهم وأفكارهم، بعيدا عن التقاليد والدين، ليولدوا
عرايا من جديد، ويدخلوا عالم السيولة بحرارة بالغة. ويكون التعلق التام، بالطبيعة
والمعجزة المتحققة هنا والآن، ويتحقق التحكم الكامل فى البشر فهم بلا إرادة،
تدفعهم روح الإله التى حلت بهم فيتحرك من خلالهم وينطق من خلالهم، أو العكس، وتصبح
كل ذرة فى العالم هى انعكاس لروح الإله وعلى البشر التأمل فيها دون البحث عن أية
غاية وراء الأحداث، ويتعايشون فى وئام، تام، تذوب فيه الهويات والفوارق.
وهو يجسد فكر ما بعد الحداثة، الذى هو فى الأصل محاولة للإنفلات من الرؤية
العضوية الآلية المنغلقة، ولذا فهي تعلن سقوط المركز واختفاء الذات والموضوع
والاتجاه والمرجعية. ولكن ما نجم عن هذا ليس انفتاحا وتحررا للإنسان، وإنما تفتت
فى الكون، وغياب لأية مرجعية وضمن ذلك المرجعية الإنسانية. أي أنها خروج من
الثنائية الصلبة، وسقوط فى السيولة الشاملة!
إن من يطالع فكر المسيرى ستعرف على عدة حقائق هامة وهى أنه فى الوقت الذى
يطرح عليك وجهة نظره لا يلزمك بها، حتى أن وجهة نظره ليست هى كل شئ فجوهر المسألة
محورين: أولهما هو أن تبحث عن مدى مقدرة رؤيته على تفسير الظاهرة التى يناقشها.
والمحور الثانى الأهم فى رأيي هو أنه يأخذك دائما إلى رؤية الآخر، وهل هي غطّت كل
جوانب الظاهرة أم أن هناك تحيزا ما، وبالعودة إلى رؤية الآخر هل علينا أن نتقبل
تلك الرؤية كما هى والتخلى التام عن مصادر هويتنا دون استخدام مقدراتنا العقلية
والإستلقاء التام أمام ما يطرحه الآخر على أنه حديث وجديد ومتطور، وتحملنا تلك
التساؤلات دائما إلى الأصل، أصل الفكر الإنسانى وهو: لماذا علينا أن نفكر؟ ولماذا
نستخدم قدراتنا العقلية؟ لا يجبرك على رأي مهما كان صحته ولكنه يترك لك حيزا
للتجربة, انه ينطلق من الإنسانية المشتركه فكل جيل يتأثر بمن سبقه (أي التاريخ
الإنسانى) ويربطه بحاضره (مجال أفكاره ورؤيته) ليشكل مستقبله. وبذا فهو يرفض فكرة
"الصفر التاريخية" ومن منطلق انسانية مشتركة يحاول أن يضع قدمك على
الطريق، ثم يترك لك حرية تحديد وجهتك، إذ أنه يناقش ظاهرة ما، ثم يحاول اكتشاف
"المنحنى الخاص بها" وهى النقطة التى تلتقى فيها الرؤية الخاصة للمدرك
بزوايا الظاهرة المتحددة، ويمكن للقارئ أن يدرك المنحنى الخاص من خلال القانون
العام الذى يجرده "الكاتب" ويعرضه من خلال مناقشته لأبعاد ظاهرة ما. وقد
تختلف معه أو تتفق وهو ما يقر به، فلكل مدرك زاويته الخاصة، لكن لا بد من وجود أرض
ثابتة، مرجعية، يتم الإنطلاق منها. لكن هل المرجعية هى الإنسان، أم الطبيعة، أم
الإله؟
وبعد أن ناقش النموذجين الآلى والعضوى انتقل إلى صورة مجازية أخرى فى
الحضارة الغربية الحديثة. وهي الجسد والجنس. مرتبطة أيضا بالنموذج العضوي والآلي.
الجسد والجنس كصورة مجازية أساسية فى الحضارة الغربية.
فى عصر النهضة فى الغرب ظهر فكر جديد يرتكز على الطبيعة.. وقد ترجم هذا فى
عالم الفنون إلى الإهتمام بالجسد الإنساني، أما فى عالم الفكر ظهرت فكرة الإنسان
الطبيعي (الذي يدور حول جسده) والإنسان الإقتصادى (الذي يبحث عن المنفعة المادية
والتراكم الرأسمالي).. وفى هذا الإطار ظهرت الصورة المجازية العضوية، ثم ظهر الجسد
كصورة مجازية أساسية.
ويمكن أن نتلمس ذلك عند فوكوياما من خلال عودته إلى هيجل وماركس. فالإنسان
أحادى البعد (الإنسان الإقتصادى والإنسان الطبيعي) الذى ينطلق فى العالم من خلال
جسده، معتمدا على منظومته الإمبريالية، لا يرى العالم إلا من خلال حواسه الخمس، فجسده
هو أساس رؤيته للكون، وإن كانت هناك أولوية لشئ فهي لجهازه الهضمي، وربما لعضلاته!
وهذا هو إنسان عصر التحديث.
أما الجنس فهو الصورة المجازية لعصر ما بعد الحداثة. فالجنس (اللذة والشهوة
والرغبة) أخذت أسبقية معرفية على كل الأشياء، حتى أن الجنس بدأ يحل محل اللغة. وقد
شبه ليوتار العلاقة المعرفية بين الإنسان والواقع بعلاقة الرجل الساذج بالمرأة
اللعوب: يظن أنه أمسك بها، ولكنها تفلت منه دائما. كما فى رواية بندول فوكو (بين
بيلبو ولورينزا) ويرى كل من نيتشه وبارت ودريدا أن تحطيمهم المقولات العقلية
واللغوية هو عملية ذات طابع جنسي: ذوبان وسيولة. فدريدا شبه التفكيك بأنه حالة قذف
لا تنتهى. "Continuous orgasm" . ويتحدث
بارت عن لغة مثالية تتسم بالسيولة الكاملة والإنفتاح المطلق بحيث يتحدث المرء من
خلال كلمات ذات مقطع واحد هي أقرب إلى صيحات الفرح الجنسية. كما أن لذة النص وفقا
لبارت أو اللذة المتأتية من القراءة، تشبه الرعشة الجنسية. فتغير مفهوم النص
الأدبى، من عمل فني لوعى الفنان وتجاوزه لذاته، ومحاولة منه لفرض معنى على الطبيعة
التى لا معنى لها، وإنما أصبحت الصورة المجازية التفسيرية هى اللذة الجنسية.
وأصبحت القراءة الصحيحة للنص هى الإستسلام التام لإغواء لغة النص ولمجموعة من
الصور تفقد العقل هيمنته وسيطرته.
وبرغم أن اللغة فى رأي أنصار ما بعد الحداثة هي نظام مستقل عن الواقع لا
يشكله الوعي الفردى، إلا أن بها بعض ظلال الإله، أي المعنى والرغبة فى التفسير
والذات والموضوع. أما الجنس، فهو رغبة فردية محضة، ولكن لا فردية فيها، (أي لا
يتميز بها شخص عن غيره) فالجميع يشعر بها ويمارسها، وهي بذلك لا يمكن الحكم عليها
من خارجها، ولذا فهي تتحدى التفسير، ومن يتمسك بها لا يسقط فى الميتافيزيقا، فهي
دال دون مدلول. فالعملية أو النشاط الجنسي أصبح مرجعية ذاته، يحكم عليه من الداخل،
وهذا يعنى انفصالها عن الإنسان المركب، ويمكن أن يأخذ الإشباع الجنسي صورة أخرى فكما
يرى فوكوياما أنه ليس مجرد إشباع جنسي -إذ لا نحتاج دائما لشريك من أجل هذا- بل
لأن يكون اغرؤنا الشخصي "معترفا به" من قبل شخص آخر، مثل شخصيات كونديرا
فى كائن لا تحتمل خفته. فالغاية النهائية هنا هو "أشكال الشبق الأكثر
عمقا" أي النشاط أو الرغبة الجنسية.
وبهذا يمكن القول بأن الرغبة الجنسية أقرب من الجسد إلى المادة الأصلية
الأولى، التى تتحدث عنها الفلسفة المادية والتى ليس لها أصل ربانى، هى المرجعية
المادية الكامنة الحقة التى لا تعرف أي تجاوز، والتى نجحت عن حق فى تصفية ثنائية
الذات والموضوع -بعد أن فشلت فى الوصول أو الكشف عن الشئ "المتعذر"
الوصول إليه وهو الذات الإنسانية، (محاولة كونديرا فى كائن لا تحتمل خفته) تم
تصفية كل الثنائيات، لتصل بالإنسان إلى عالم الرغبة الجنيني الواحدي. ويمكن أيضا
أن نعود إلى فيلم "Avatar"
فكما رأينا إن العلاقة تتم بين مخلوقات ذلك العالم "أبناء الطبيعة" من
خلال اتصال عضوي/طبيعي بحت، تتشابك فيه الأعضاء من خلال شعيرات، ويصبح هناك تلاحم
عضوي، أو توحد للشعور بين الجسدين ومعرفة كاملة برغبات الآخر وانفعالاته, لكن
الغاية النهائية مجهولة وغامضة بالمرة. هل يمكننا والحال كهذه أن نتحدث عن تجاوز إن
تم التواصل مع ابناء الطبيعة أو مع البشر من خلال الجسد أو الجنس بحيث تصبح
العلاقة الجنسية وسيلة وغاية فى نفس الوقت للتواصل البشرى، فيحل الجنس -الصامت-
محل اللغة ويأخذ التواصل منحنى آخر، غير انساني، حتى تختفى اللغة تماما.
المجاز بين التوحيد ووحدة الوجود
المجاز معادلة صعبة بين الثابت والمتغير من المعنى، فله وجوه كثيرة، وكلها
من وجه واحد. ليس هلوسةً لا علاقة لها بالكون المادي، وليس إخبارا عن الواقع لازما
له كقوانين الكيمياء، يبقى ببقاء المادة ويتغير بتغيرها، والمجازٌ حالٌ بين حالين،
صفة معلومة لموصوف مجهول، فبعض الحقائق تٌعرَف ولا تٌعرّف، وتُنظر بالعين ولا تُعيّن!
تميم البرغوثي
والصورة المجازية هو استخدام الإنسان اللغة ليعبر عن شئ ما،
لكن المقصود يتجاوز المعنى الحرفي للكلمات، وصولا إلى معاني عميقة غير مدركة حسيا
ومتجاوزة للمادة. والمجاز بهذا المعنى هو نقطة تقريب لفهم ما هو مطلق ومتجاوز، وبين
ما هو نسبي ومحدود. أي تفرقة بين الإله وبين الطبيعة وبين الإنسان، بين الخالق والمخلوق،
بين التوحيد ووحدة الوجود.
واللغة من وجهة نظره هي الرابط، العامل الأساسي في التواصل
بين البشر، فكما في المجاز من معنى أو معاني غير ذاتية ولكن، متجاوزة.. هناك أيضا الدال
وهو الجانب المحسوس من الشئ والمدلول وهو الجانب المفهوم من المعنى.. فالدال أو الصورة
الصوتية أو مساويها المرئي التي تشير إلى شئ والمدلول هو المشار إلية. الدال هو
الإسم، والمدلول هو المسمى.
فهناك على سبيل المثال دال يشير إلى مدلول كأن أقول
"هذه تفاحة" بينما أشير بيدي ناحية شئ وهو "التفاحة" من المفترض
أن الذي يقف ويسمع ويرى سيفهم المقصود تماما أي سيعرف الدال والمدلول. سيفهم
الجملة فدلالتها واضحة لا تحتاج إلى جهد عقلى مكثف.
وكما في المجاز واللغة المجردة من المعنى من تباين أيضا هناك
بين الدال والمدلول علاقات تباين؛ هناك دوال لا تشير إلى أي مدلول كأن تكون في غرفة
مغلقة ويطلب منك أحدهم أن تفتح النافذة، التى تبحث عنها فتجدها مفتوحة أصلا، من
السهل أن نتبين أن هناك ثمة خللا ما، ولكن إذا طلب منك أحدهم أن تفتح النافذة ولم يكن
هناك وجود لأي نافذة على الإطلاق!، ثم لنفترض أنه تم تقييدك إلى كرسي ثم طلب منك أن
تفتح تلك النافذة التي هي غير موجودة على الإطلاق!، هذا ما يسمى بانفصال الدال عن المدلول
ورقص الدوال أي أن الدال لا يشير إلى أي مدلول.
وهو محاولة منه بأن يعود إلى ثنائية اللغة والكلام، اللغة أي النسق اللغوي،
والكلام أي التعبير الذاتي، فاللغة يمكن أن توصل الإحساس بالمطلق وبالعالم
المتجاوز. إن عملية الإفصاح تأخذ شكل قول نطرحه على الآخر وعلى الواقع، فيقبل
البعض ويرفض البعض الآخر ويصحح ما نقول. ونحن نعلم صعوبة التعبير، ولذا نستخدم
المجاز للتعبير عما هو مركب ومتجاوز.
وهناك من يفترض أن اللغة إما أن تتطابق مع الواقع أو أنها لغة لا واقع لها،
وإما حياد كامل فى اللغة أو ذاتية لا يفهمها إلا صاحبها وإما أن توصل الحضور
الكامل وتتواصل مباشرة مع الكليات أو لا داعى لأية لغة أو أية كليات. وهي بذلك
تلغى الثنائيات: الذات والموضوع، النص والتفسير، والنص والواقع، والدال والمدلول،
والإنسان والطبيعة، والإله والإنسان. ففى المنظومات الحلولية أي حينما يحل الإله
فى الإنسان أو فى الطبيعة أو كليهما فيتم استيعاب الإله والإنسان فى الطبيعة،
فيتحول إلى مادة. فيصبح الإنسان هو مصدر القداسة ويصبح التفسير الحرفى للنص المقدس
هو التفسير الوحيد المتاح. ويمكن ملاحظة ذلك فى شخصية "المسيح" فى
المسلسل الذي يحمل نفس الإسم، فالتفسير الحرفى هو سمة له ولمعارضيه وكلا التفسيرين
ينتج عن رؤية أحادية تختزل المساحة التى تفصل بين الخالق والمخلوق، وبين الإنسان
والطبيعة فكل شئ مفهوم "حرفيا" أي فى الوقت نفسه غير مفهوم، وكل شئ يحدث
فى الطبيعة نتيجة أحداث أيضا غير مفهومة أى غير مدركة إلا من قبل الإله أو المتحدث
باسمه. وعليك أن تفهمها كما هي أي دون فهم أيضا. فالحلولية الحرفية ثمرة القضاء
على الثنائية والتجاوز وثمرة اختزال المساحة بين الخالق والمخلوق، وبين الإنسان
والطبيعة، وبين الدال والمدلول.. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الحلولية هي عكس
التوحيد، الذي يدرك به الإنسان الخالق باعتباره، إله العالمين، الواحد، المتجاوز
لعالم الطبيعة والتاريخ.
ويمكننا أن نراجع صورة أخرى وهى من فيلم رسائل البحر، حين يلتقط
"آدم" رسالة لفظها البحر، (الذي يمثل صورة العالم السماوي) ويحاول أن يصل
إلى معناها، الغير مفهوم تماما، لأنها مكتوبة بلغة غير لغة البشر. لغة ذاتية لا
يفهمها إلا كاتبها. فيكتفى آدم بالرسالة، دون فهم مضمونها، فالمهم بالنسبة لنورا
أن هناك رسالة، بغض النظر عن معناها. ويكتفيان سويا بالعلاقة الجنسية.
ولما كان الغرض من ارسال الرسائل هو ايصال معنى من طرف لآخر. فإذا كانت
المراسلة بين البشر فإن التواصل يبدأ بأن يرسل إنسان رسالة إلى الآخر تعبر عن
رأيه، فيتلقاها هذا الآخر ويقبل مضمونها أو يرفضه أو يعدله، ويتحول هو إلى مرسل،
ويرسل بدوره رساله إلى الأول الذى يتلقى الرساله فيقبل أو يرفض أو يعدل مضمونها
وهكذا.. تصبح العلاقة منفتحة على الآخر.
أما إن تواصل الإله مع البشر فإن ذلك يتم من خلال النص المقدس، المكتوب
بلغة بشرية مفهومة, ومع ذلك فكلمات الإله، والمعنى الكامن ورائها، لا نهائي، فلو أننا استخدمنا البحر السائل، المادي،
النسبي، الذي ستكتب به كلمات انسانية نسبية، للإشارة إلى المدلول الرباني، لعجزت
كل الدوال، لأن المدلول الرباني متجاوز لكل ما هو مادي.
ووجود المجاز يعنى أن النص المقدس (رسالة الإله للإنسان) نص توليدي مركب،
متعدد المعاني والمستويات، بعضها ظاهر وبعضها كامن، ولكن فى كليتها وتفاعلها تولد
المعنى الذي يمكن الوصول إليه من خلال الإجتهاد (لا من خلال العرفان أو التفسير
الحرفي) ويدرك عقل المجتهد الطبيعة المجازية للنص (فهو ليس صيغة سحرية، ولا تجسدا
إلهيا) ويحاول من خلال عملية تفسير مركبة الوصول إلى معناه المركب الظاهر والكامن.
فالاجتهاد (مثل المجاز) يأخذ نفس الشكل: (الإتصال بين عقل الإنسان والنص)، يعقبه
انفصال (تجريد النموذج) ثم يعقبه اتصال (العودة إلى النص للإحتكام اليه)، فهي حركة
حلزونية لا متناهية للوصول إلى المعنى. المعنى الذى يتوصل إليه المجتهد ليس معنى
نهائيا، إذ تجب عليه العودة دائما إلى النص المقدس، أي أن الاجتهاد يأخذ شكل حركة
حلزونية منفتحة.
فالاجتهاد في المنظومة التوحيدية إذن يعني أن المفسر يعمل
عقله ليسبر غور العلاقة المركبة بين الدال والمدلول، ويطرح معنى للنص، معنى ليس هو
المعنى المطلق أو الحقيقي أو النهائي للنص، وإنما هو معنى يقارب الحقيقة، وقابل للإختبار
من قبل قارئ آخر. فالمجاز - فى نهاية القول- يلزمنا درجة من التواضع، وأننا مهما
علمنا ففى العلم زيادة.
تعليقات
إرسال تعليق