فتح بطن التاريخ

 فك شفرة الزمن: كيف يكشف "فتح بطن التاريخ" عن

تكرار الأزمات في حاضرنا؟



يا اللي انتم بتدوروا على شيء ما تعرفوهوش/ يمكن يكون تحت عينكم وانتم ما تشوفوهوش/ القصة مش سد خانة واستيفاء أوراق/ دا بُنا بزمة وأمانة يعني راق فوق راق/ على أساس حق، مش طقة حنك معتوه/ يا الحق هيضيع ما بيننا والحقيقة تتوه/ وتوصلوا للنهاية وتبقوا ما وصلتوش!

أشعار سيد حجاب (مسلسل هيمه أيام الضحك والدموع).


"فتح بطن التاريخ" عرض موضوعي: 

الكتاب الصادر في عام 2014، للأستاذ بلال فضل، هو تجميع لمقالات نشرت في الصحف بين عامي 2006 و2013. يمكن اعتبار الهدف الأساسي من الكتاب، -بجانب معالجة الحالة السياسية والاجتماعية- هو إبراز ظاهرة تكرار الأزمات عبر التاريخ، ومع التأكيد على أن عدم التعلم من دروس الماضي يؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج الأزمات نفسها.


يتميز أسلوب الأستاذ بلال فضل الساخر الذي يجمع بين التحليل العميق والسهولة في الاسترسال والسرد، باعتباره صحفي وكاتب سيناريو وروائي، ما يجعله جذابًا للقراءة. وأكثر جذبًا للقراء المهتمين بما جرى وما يجري، ويدفعهم لتوسيع زوايا الرؤى ومنح الفرصة لسماع صوت مغاير وإعطاء مجالا للتفكير النقدي وتكوين صورة مغايرة لما قد يكون مترسخ بصورة خاطئة وفي الأخير يمكنك أن تتفق أو تختلف معها.


لذا يعد كتاب "فتح بطن التاريخ" عملًا أدبيًا من الناحية السردية، وتحليليًا: سياسيًا واجتماعيًا فريدًا يضم مجموعة من المقالات التي انتقاها الأستاذ بلال من خلال كتاباته العديدة والمهمة، كما أسلفنا للفترة من 2006 وحتى نهاية 2013. بهدف تسليط الضوء على: مشاكل مصر سواء من حكامها أو من يسعون لحكمها وبطبيعة الحال للبقية الباقية أي المحكومين من شعبها الحبيب المناكف أو المهاود على حسب موقعك من الكنبة.


يتناول الكتاب في جزء مجمله: فكرة أن مشاكلنا الحالية ليست بالضرورة جديدة، بل هي في كثير من الأحيان انعكاسات أو تكرارات لمشاكل حدثت في الماضي. ويمكن التساؤل هل حدوثها في الماضي يعني بالضرورة تكرارها؟ الإجابة: نعم ولا، إذا كانت أحداث الماضي ذكرى -وفقًا لبول ريكور- فإنها متمثلة في الحاضر بمعنى من المعاني. ويمكن أن تكون مشكلات متراكمة لم يتم حسمها فتراكمت مع مزيد من مشكلات الحاضر. لذا وجب الرجوع إليها، وبغض النظر عما يمثله الماضي من حنين لغالبية البشر، فإن البحث في أصل المشكلة هو الفكرة المحورية وهي ما دفعته إلى "فتح بطن التاريخ"، بمعنى الكشف عن أحداث الماضي واستخلاص الدروس منها، باعتبار أن النسيان وعدم التعلم من التاريخ هما السببان الرئيسيان وراء تكرار الأزمات.


الكتاب لا يعرض المقالات بتسلسل تاريخي، وإنما يقدمها باعتبارها دروسًا صالحة لأي وقت، طالما كانت الأزمة تخص الماضي-الحاضر الآن وبقوة. مع ذلك يمكن تقسيم المقالات حسب تاريخها وليس كما وردت في الكتاب إلى ثلاث فترات:

 ١/ ما قبل الثورة أيام حكم: "له ما له وعليه ما عليه"، 

2/ خلال الثورة، نصائح للثوار،

3/ عصر الليمون وما بعد الحموضة.


القسم الأول من المقالات: تُعد معارضة حقيقية، لفترة مبارك. وبها ما بها من لمس لحقيقة الموقف وتبيان لخطورته، فمن اغلاق للمجال العام، وقضية التوريث وتزوير الانتخابات ومن التحذيرات العديدة، واسداء النصيحة، وأخذ العبرة، في فترة كما نعرف جميعا ودون حاجة لأن تكون حكمة بأثر رجعي، لأن وقتها كانت "ودن من طين والأخرى أطين منها" أو كما يقول حزلقوم: لا وحياتك لمن تنادي.


القسم الثاني الخاص بالثورة، وهي الفترة من يناير ٢٠١١ إلى ما قبل عصر الليمون. من خلال الكتابة التحليلية وإحالات مهمة لكتب تستعرض وتتناول تاريخ الثورات، والنصح الحثيث، للثوار بعدم ارتكاب نفس الأخطاء.


في إشارة لبعض التجارب الثورية في أوروبا و"الدول المتقدمة" كما في مقالات: حديث عن الثورة الناقصة ومصر ليست فرنسا، ومقالات أخرى تستعرض أهم الكتابات عن الثورات الكبرى في العالم: الفرنسية والأمريكية على سبيل المثال لا الحصر. من خلال عرضه لكتابات المؤرخ كرين برنتون. وكتابات هوارد زن، إيريك هوفر وجوستاف لوبون.


بالمقارنه مع ما حدث في مصر (يناير 2011) من حالة التمني وترديد الشعارات دون "فهمٍ"، أو إدراك حقيقي. سواء من خلال مطالبها بالسعادة المطلقة أو بالسؤال عن الثورات الأخرى كالثورة الفرنسية التي فرضت شرعيتها الثورية وعقدت محاكمها ووصلت إلى الحكم، ورغبة البعض في احتذاء نفس المثال. ومن التحذير في الوقوع مجددًا في الحكم الاستبدادي؛ سواء كان يستخدم الدين أو استبداد يقف ضد الدين أو استغلال الدين لمصلحتها.


وبغض النظر عن نتيجة تلك الثورات يؤكد بلال فضل: أن كل المجتمعات التي شهدت ثورات، مجتمعات قوية، لأن المجتمعات الضعيفة والمنهارة لا تتعرض للثورات. وأيا ما كان فالثورات دليل قوة وشباب المجتمع.


يستعرض بلال فضل في مقالاته: التمنيات والنداءات الثورية وربطها بعد التعمق في الثورية الفرنسية وغيرها.. وكذلك التنقيب في تاريخ مصر المملوكي في القرن السابع عشر وتناول أزماته الاجتماعية المهلكة، وكذلك تاريخنا الحديث ومراجعة ثورات: عرابي وما تعرض له ولاقته البلد والثوار وهو نفسه، وثورة الشعب في 1919 وخلاف سعد زغلول وعدلي يكن، حتى يوليو 52 وصولا إلى ثورتنا المجيدة أو المهيضة في يناير 2011.


بأسلوب سردي لاذع وحاد في كثير من الأحيان يمزج بين السخرية المريرة والعمق الفكري وبين تلمسه لما يوشك أن يحدث وخطورة ما نحن مقدمين عليه، مما يجعلك كقارئ تنخرط في رحلة استكشافية -مريرة- لفهم أعمق للعلاقة بين الأمس واليوم، وتبيان ملامح الفترات التي قد يظن البعض من محبي الحنين للماضي أنها أيام الزمن الجميل، وهي في الحقيقة أكثر إيلامًا وأشد وطأة. وبين الحنين لحكم مبارك ودعم الإخوان وسطوة اليد الخفية الموشكة على احكام قبضتها على رقاب الجميع.


تعتبر التحليلات الاجتماعية والسياسية العميقة، انعكاسًا لتجربة بلال فضل ومحاولاته لإنعاش الذاكرة ومقاومة النسيان. على الرغم من إقراره بأن مجرد نشر المقالات لن يغير الواقع بشكل جذري، إلا أنه يحدوه الأمل في أن يُلهم الكتاب القراء للمساهمة في إحداث تغيير، ولو بسيط، لوقف دوامة تكرار الأخطاء التاريخية.


معبرًا عن أمله في "أن تلفت فصول هذا الكتاب انتباهك ولو قيد أنملة إلى بعض ما جعل تاريخنا يَبيض نفسه من فرط الإعادة، فيدفعك لأن تساهم في إيقاف تلك الإعادة الخنيقة بتغيير الواقع من حولك ولو قيد أنملة"


متعرضا لظاهرة التكرار التاريخي للأزمات، مؤكدًا أن المجتمعات التي تتجاهل دروس الماضي محكوم عليها بإعادة إنتاج نفس الأخطاء والأزمات.



وبذا يأتي القسم الثالث والأخير، الذي ربما لامست فيه، رغم الحرص على التنبيه والنداءات المتكررة والدفع الحثيث للابتعاد عن الخطر المقبلة عليه البلد، وتفادي "الخاذوق" المسنون، وبدا أن تلبيسه أي البلاء خير من انتظاره وإن خلاص، "مفيش في ديك أبوكم فايدة،" وفي رأيي: كتابات تلك الفترة من الأهم بمكان خصوصًا مقال: رسائل إلى ثائر حر.


بطبيعة الحال لا تقلل السخرية ولا اللغة المحكية بلسان الواقع من عمق المحتوى، بل يجعلها أكثر جاذبية وسهولة في الهضم، حتى عند تناول قضايا تاريخية وسياسية معقدة.


إذن لا يقتصر "فتح بطن التاريخ" من خلال مقالاته على سرد الأحداث أو تحليلها فحسب، بل هو دعوة لقراءة التاريخ بشكل نقدي ومتعمق. يحث الكتاب على تجاوز الروايات الرسمية والسطحية، والبحث عن الحقائق والدروس التي يمكن استخلاصها. مؤكدًا أن الرجوع للتاريخ وفهمه بشكل أعمق يمكن أن يكون مفتاحًا لتجنب تكرار أخطاء الماضي، ويشجع على الوعي الفكري والسياسي كأدوات للتغيير. هذا النهج يجعله مرجعًا مهمًا لكل من يرغب في فهم أفضل للجوانب التاريخية التي تشكل حاضرنا.


لا يمكن كذلك الإغفال عن مساهماته بعد 2013، وما قدمه من مراجعات للفترة من 2011 وما قبلها وما بعدها والنقد الذاتي لبعض المواقف عبر قناته على يوتيوب. https://www.youtube.com/@Belalfadl

وللمزيد يمكن متابعة بودكاست مع المرحوم الأستاذ محمد أبو الغيط بعنوان: حوار مع بلال فضل في الذكرى العاشرة للثورة المصرية

https://www.youtube.com/watch?v=bxE2l1CY-2g



يُقدم هذا الفيديو حوارًا معمقًا في الذكرى العاشرة للثورة المصرية. يتطرق الحوار إلى رؤى فضل حول التاريخ، وأهمية القراءة، وتجاربه الشخصية في الكتابة. يُسلط الضوء على فكرته بأن المجتمعات بحاجة إلى التعلم من ماضيها لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء مرارًا وتكرارًا، وهو ما يتوافق تمامًا مع الرسالة الأساسية لكتاب "فتح بطن التاريخ". 


في معظم حواراته والتي لا تخلو من الإشارة لكتاب أو أكثر ولمزيد من ترشيحات الكتب يمكن متابعة حلقات الحكاية والرواية مع بلال فضل بعنوان: إيه أحلى كتب قرأتها في حياتك؟ في ثلاث حلقات. الرابط للحلقة الأولى.


https://www.youtube.com/watch?v=UZhrMZK2S8U



وإلى جانب مقالاته تتنوع كتاباته بين السيناريو، والقصص الروائية والسينمائية التي حققت نجاحًا واسعًا. يمكن الإشارة إلى أفلام مثل: حرامية في كي جي تو، أبو علي، الباشا تلميذ، واحد من الناس، صايع بحر، سيد العاطفي، حاحا وتفاحة، خارج علي القانون، خالتي فرنسا، في محطة مصر. أما في الدراما: هيما أيام الضحك والدموع، أهل كايرو، الهروب، وأهل اسكندرية الممنوع من العرض. إلى جانب برامجه التليفزيونية على قناة دريم من خلال برنامج عصير الكتب وبرنامج الموهوبون في الأرض شبكة التلفزيون العربي. 

"لازم لها فتح بطن" عرض شخصي:


تلح عليّ فكرة، تنخر دماغي، أن ما يحدث الآن قد حدث من قبل، وما نفعله، نحن، سوى تكرارًا مملًا. وأن ما أقوله يأتي إليّ عن طريق.. أو تفرضه عليّ، ذاكرةً، غامضة، كما لو قرأته يومًا، ما. لا أدرى أين؟ أين؟! لكن، دون رغبة مني،

 أقول: رغم رغبتي بالصمت والكتمان. حريصا لئلا أقول كلاما لغيري يعكس حقيقة مشاعري. "لئلا أقول، انتصرت" أحاول مخادعته، "لئلا أقول خسرت الرهان" ممسكا القلم، باليد الأخرى، عسراء! لا بد أن تختلط عليه الأفكار. بينما تخط ببطء، ما لا يمكن أن يملى عليها. ولكن تلتقط، الكلام، كما يلتقط، الحَبّ، من بين القش، القطاة. لذا سأخرج من حرير الشرنقات! سأفتـرع الكتـابـةَ.. وأجـتـرح الحـقـائـقَ.. وأنتظـرُ القيـامـةَ فــي هــدوءٍ.. وحيـداً تحـت سقـفِ مُخيَّماتي.


بغض النظر عما قرأته للتو. يبدئ بلال فضل تقديمة كتاب: فتح بطن التاريخ. بافتتاحيته، واسمح لي أستاذ بلال أن أعلي السقف وأقول: أن المريض لم يعد يكفيه فتح بطن، ولا استئصال وزرع أعضاء، فلنقلها صريحة: لا زم لها، ضبط مصنع. 


لا بد من متبرع إذن لينتصر الرسول.


عودًا على بدء، أقول إنني لحسن حظي أو لسوئه، وكذا لدماغي الناشفة، ضيعت على نفسي فرصة -مبكرة- في لتعرف على واحد من أهم كتاب مصر والمشغولين بالشأن العام، وأكرر اعتذاري وعجزي الكامل عن كتابة كلمات المديح والامتداح لكن ربنا أعلم بما في القلب من حب وتقدير.


صادف صدور الكتاب، أن تعرض لي أحد الأشخاص، -كان صديقا- بترشيحات عديدة للقراءة. أذكر تحديدًا من بينها فتح بطن التاريخ، وكل رجال الباشا، وبعض روايات للأستاذة رضوى عاشور، ولأنني حديث عهد أو مستجد على عالم الكتب ولا زلت، بالرغم من ذلك وفي محاولة للدخول إلى عالم ذلك المثقف، الغائب عن وعيي الضحل، صادفت تجربتي الأولى كتاب كان قد لوّح باسمه خلال مناقشاتي معه، وللأسف -لداعي من دواعي الذاكرة- لا أذكر اسمه، لكنني أذكر جيدًا حالة البضان التي تلبستني طيلة قراءتي له، ومدى ضحالة الأفكار التي يعرضها وسذاجتها؛ وتلك صفة التصقت بي منذ طفولتي فوالدتي التي "تَذْكُر" تعيد عليّ مرارًا أنني كنت ساخطا على أيامي الأولى في المدرسة وذلك لأنني استسخفت ما كانوا يدرسونه لي بداية من حروف الهجاء حتى الإملاء؛ لا لشيء إلا لأنني كنت قد تعلمتها في وقت سبق دخولي المدرسة! وفي حالتنا تلك حدث انني اتبضنت أكثر، من الشخص نفسه، إذ بالضغط على النفس والتحامل عليها بمحاولة أخرى مع كتاب آخر لم تكن أكثر حظًا من سابقتها، فقررت أن اتجاهله وكل ترشيحاته.



ما أثّر فيَّ ودفعني إلى التفكير، هو محاولته إضفاء هالة من المعرفة العليا، كاليد العليا التي هي خير من السفلى، إذ كان يلوّح دائمًا بمنطقٍ متعالٍ، كأنه قابض على أطراف الحكمة "بقبضة يده". كنتُ، ولا أزال، أكره ذلك الأسلوب المنفِّر، المُلِحّ، للمثقف المتثاقف. (وقد انتشرت هذه الموجة بشراسة على مواقع التواصل الاجتماعي). وكنتُ، ولا أزال، أكره مَن يدفعني دفعًا لفعل أيّ شيء لا ينبع من حريتي (المزعومة)، لا سيّما إن كان ذلك إلحاحًا على قراءة كتاب، أو مشاهدة فيلم، أو غيره من الاهتمامات الشخصية التي يدور حولها لغطٌ، أو يُكال لها مدحٌ مائع. عندها يكون قراري هو الابتعاد والتجاهل، بهدوءٍ يكاد يتميّز من الغيظ.


إذن هذا ما جناه عليّ صاحبي، وقد جنيت على أحد. ظنا مني أنني سألاقي المصير نفسه مع باقي الكتب. الآن، ولا أعرف حقيقة إن كنت نادما، أم أنه لو صادف وقرأت الكتاب وقتها بمشاعر الغضب والسخط وقلة الحيلة. إذ والحال كهذه، أظن أنني كنت سأفوت على نفسي الفرصة في التعرف على أحد أهم مثقفينا.


أما حسن الحظ، أنني لم يطل بي الأمر كثيرًا، إذ بدأت تتسرسب إليّ حلقات عصير الكتب. وبقليل من عدم الإنتباه، وبكثير من الريبة من كل شيء، كنت أتوقف عن متابعة ما يجري على السوشيال ميديام!. بينما أتابع قراءاتي هنا على جود ريدز، قبل أن أحذف الحساب القديم منزويا في فقاعاتي الخاصة وأعود مجددًا.


بعد فترة انقطاع وتوقف عاود الاهتمام مُجَدّدًا نفسه، وأظن أنها كانت بداية، بفتح بطن فعلية في مجازها، يمكن قول ذلك، ومن ثم غسيل معدة، وأخذ مقويات وفيتامينات للذاكرة التي أعاني من هشاشتها. عاد الاهتمام الحقيقي إذن مع بداية قناة الأستاذ بلال على يوتيوب، وأصبحت الحلقات كمؤنسات للوحشة العقلية المتوحدة. وأخذت شيئا فشيئا اتابع باستمرار حلقاته وأتعرف إلى كتاباته.


ومع الوقت وتشكل قناعات، مهمة، وابدالها أخرى، وترسخ غيرها، كانت في حاجة إلى إعادة وتكرار. وهكذا أصبحت حواراته، مسلكا للفهم وانعاشًا للذاكرة، في الفكر والتذكر، انفتحت على منعطفات أخرى للقراءة.


نعود للكتاب ومقالاته المهمة، بالطبع قد تعثرت خطاي في أكثر من مقال، من خلال الإحالات المتعددة في حلقات عصير الكتب. أو من خلال الفيس بوك. ويمكن القول أن المقالات من نفس مادة ما يعرض في القناة. غير أن الأوضاع تغيرت وتأزمت وتهلهلت وتشخرمت. والمجال مفتوح أكثر في القناة لمناقشة الأفكار ويا لها من فرصة سعيدة أن تجد من يعبر عما يدور بداخلك من أفكار مشتتة.



أما كون فكرة جمال الزمن الماضي، ربما في التحليل الأخير تأتي من وطأة اللحظة الحالية، أو أنها تجميل انتقائي للذاكرة، يميل إلى تجاهل الصعوبات وتهويل الجوانب الإيجابية، وغالباً ما ينشأ كآلية نفسية للتعامل مع التوتر في الحاضر.

في مرحلة عمرية أصغر، يمكن للمرء -أحيانًا- أن يغالب واقعه، وأن يواجهه بالهرب أو بالتحايل على الموقف. وأقصد هنا تحديدًا ذلك اللعب الطفولي، وتلك الثورة المراهِقة على كل شيء. لكن سرعان ما تُقابَل تلك الثورة بشتى ألوان القمع، فيمضي الإنسان في حياته على نمط الآلة، دون متعة ولا إدراك. ومن هنا، يبدأ الملل والسأم في التسلل، ويصبح الحنين إلى زمن مضى، كانت به إمكانية ما، ضرورة نفسية أكثر منه رغبة واعية.

هناك أسباب شتى تدفع الإنسان إلى فقدان جمالية اللحظة، والانزلاق -أو "الشقلطة" إن شئت- إلى لحظات ماضية يستخرج منها وهم المتعة. كاستمناءٍ ذهنيٍّ عبر صُوَر شبحية لامرأةٍ يستحيل على الخيال استحضارها في تمامها. وهكذا يحدث فرط في الشعور المنتشي، لا يغذي الحاضر، بل يهرب منه. على النقيض من الواقع الذي يُدخلك، رغمًا عنك، في صلب الموضوع..

تصبح صورة "الزمن الجميل" إذن صورة متأزِّمة لواقع أكثر تأزمًا. هي رومانسية نعم، لكنها منسية، والرغبة فيها تظل كامنة، غير مشبعة، ولذلك محكوم عليها -سلفًا- بالفشل الذريع.


أظن، وكما يعرف الأستاذ بلال، أنه ليس بإثمٍ أن يحنّ المرء إلى الماضي، أو إلى زمن ما، فالمشكلة لا تكمن في الحنين ذاته، بل في الذاكرة نفسها، باعتبارها "زمكان" الذكريات. هنا يمكن طرح السؤال: من المستفيد من هذا الحنين؟ ومن بينهم، من الأكثر استفادة؟ يمكننا القول -بتحفظ ضروري- إن الأكثر استفادة هي السلطة، أيًّا ما كان نوعها أو تجلّيها؛ فهي الأحرص على ترسيخ هذا الحنين الهش، لأن الذاكرة الجماعية والخيال الجمعي غالبًا ما يتم تشكيلهما من خلال أدوات السلطة: التنشئة، التعليم، الإعلام، بكل أشكاله: المرئي والمسموع والمقروء.

هشاشة الذاكرة ليست عَرَضًا، بل غاية؛ سلاح السلطة الأهم هو "الذاكرة المفروضة"، التي تُرسّخ قسرًا، وتُلقّن بالإكراه، كما في تجربة "الكتاتيب" التي أُعيد طرحها مؤخرًا لا بصفتها مؤسسة تعليمية، بل كمختبر للطاعة. الحفظ غيبًا، لا فهمًا، والتلقين لا التساؤل.

إنه تاريخ يُعلَّم، وتاريخ يُحفَّظ، وتاريخ يُحتفَل به. تاريخ تُنتقى منه اللحظات المشرقة -أو ما يُراد له أن يبدو كذلك- وتُمحى منه الصفحات المربكة، أو تُعاد صياغتها بما يخدم خطابًا معينًا. والنتيجة: وعي جمعي هش، قاعدته ذاكرة مُصطنعة، لا تنقل ما كان، بل ما يُراد له أن يُتذكَّر.

في هذا السياق، يصبح التاريخ أداة للتهذيب لا للفهم، أداة للتهليل لا للتحليل، وسلاحًا ناعمًا لإنتاج الطاعة وإعادة تدوير الولاء. يُلقَّن الناس أن ما مضى كان مجيدًا (أو العكس)، وأن العودة إليه خلاصًا (أو دمارًا) وكأن التاريخ لم يكن يومًا مساحة للتعلّم بل منتجعًا نفسيًا للهروب من عبء الحاضر.

السلطة تدرك تمامًا أن الحنين المشوش للماضي هو البديل الآمن عن التفكير في المستقبل؛ فبينما تصنع الأنظمة تاريخها، تُعيد الجماهير استهلاك ذاكرةٍ لم تصنعها، بل صُنعت لها.



يطرح بلال فضل السؤال: لماذا يحب التاريخ أن يعيد نفسه في الدول المتخلفة؟ 

الإجابة: ببساطة، لأنه لا أحد يقرؤه ويتعلم من دروسه؛ ولذلك يجد التاريخ أن من الأسهل عليه تكرار نفسه بدلا من تكليف نفسه بتقديم الجديد. 


هل يمكن الوقوف عند تلك الإجابة، او الرد عليها باعتبار أن "الإنسان كائن حر يصنع التاريخ"، أو كما يعرض الدكتور جورج زيناتي مترجم كتاب (التاريخ، الذاكرة النسيان لـِ بول ريكور) في مقدمته للكتاب: "ليس هناك ماضٍ يعود فجأة، ليتمثل أمام شعب بأكمله أو مجموعة بشرية معينة" هل تعفي مراجعة التاريخ من الوقوع في نفس الخطأ؟ هل الوقوف عند مقولة ماركس بأن التاريخ يعيد نفسه وتناولها باعتبارها حقيقة كونية؟ هل تشابه المقدمات يعني تكرار النتائج؟ هل قيام الثورة في 25 يناير مثلا وانحياز القوات المسلحة -ظاهريًا- للثوار، يعني أنه عند قيام الجماهير بحركة مماثلة أن يظل الجيش على حياده؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها عن الماضي نفسه وعن التاريخ وعن إمكانية التغيير. في مقال ثورة بلا دموع يقول الأستاذ بلال فضل: لم أجد واقعة تاريخية تمت ادانتها أو الحكم عليها بشكل سلبي دون يأتي من يقدم نظرة معاكسة لتلك الإدانة ويساعد على قراءتها بشكل مختلف، المشكلة أن بعض الوقائع التاريخية تكون محظوظة عندما تتبنى غالبية الناس القراءة المنصفة لها سريعًا، والبعض ينتظر طويلًا حتى يحدث له ذلك. هل الفترة الناصرية الأكثر حظًا؟ باستمرار الهزيمة كما تناولها الدكتور خالد فهمي؟ هل التحذير المستمر من الوقوع في أخطاء الماضي يعد صورة من صور إعادة التاريخ لنفسه؟


هل كان التاريخ يعيد نفسه مع كل مرة يغير فيها المصريين الفكرة عن الشعوب النهرية المكتفية بالخنوع بثوراتهم ضد الظلم الواقعين تحته؟ هل ما حدث في الثورتين الأخيرتين 25 يناير و30 يونيو، والخروج على رئيسين أولهما استقر في حكمه ما يقارب الثلاثين عاما والأخير في أقل من عامين يعني أن الشعب لم يتعلم من أخطاء ماضيه؟ هل اعتبار الأولى ثورة والثانية ثورة مضادة اعتمادًا على نتائجها؟ هل سحدث أن يتناول المستقبل أحداث يناير وما بعدها بنفس الطريقة التي نتناول بها االفترة من 52 حتى 2011؟ هل ستشمل الحيرة الفترة الحالية أم ستتضح؟ كيف يمكن المضي قدمًا نحو مستقبل "جميل" في حين أن الماضي مضبب؟ وأخيرًا وليس آخرًا هل إن عرفت لرجلي أين موضعها وتذكرت عاقبة التفريط في حريتي، هل أغنى الحذر من الثقة المطلفة؟ ، هل المياة تكدب الغطاس؟ والثورة تكدب الهجاص؟ هل يصح المثل القائل: "دلدلها للدبور.." عند إدراك البعض لسوء عاقبة انقلاب عسكري؟ وهل عدم إدراك البعض لسوء العاقبة، وإدراك آخرين لأنهم راجعوا التاريخ يعفي من وقوع المحذور؟ 


يطرح بلال فضل سؤالًا ساخرًا بالغ الجدية: لماذا يحب التاريخ أن يعيد نفسه في الدول المتخلفة؟

ويجيب: لأنه لا أحد يقرؤه ويتعلم من دروسه؛ ولذلك يجد التاريخ أن من الأسهل عليه تكرار نفسه بدلًا من تكليف نفسه بتقديم الجديد.

لكن هل تكفي هذه الإجابة؟

أليس الإنسان -كما يُقال- كائنًا حرًا يصنع تاريخه بيديه؟

وهل مجرد مراجعة التاريخ تعفينا من الوقوع في أخطائه؟

أم أن المعرفة وحدها لا تكفي دون إرادة واعية في الفعل وتجنب التكرار؟

هل كما يقول جورج زيناتي (في مقدمته لترجمته لكتاب التاريخ، الذاكرة، النسيان لبول ريكور):

"ليس هناك ماضٍ يعود فجأة ليتمثل أمام شعب بأكمله."

فالتاريخ لا يعود بذاته، بل يُستعاد بفعل الوعي أو يُستغل بفعل النسيان المقصود.

هل تصح إذًا مقولة ماركس -التي كثيرًا ما تتردد- بأن "التاريخ يعيد نفسه"، وتُؤخذ باعتبارها حقيقة كونية لا مفر منها؟

وهل تشابه المقدمات يعني بالضرورة تشابه النتائج؟

إن كانت الثورة في 25 يناير قد شهدت -على الأقل ظاهريًا- انحياز الجيش للثوار، فهل يعني ذلك أن أي حركة جماهيرية لاحقة ستلقى الانحياز ذاته؟

أم أن كل حدث له سياقه، وكل لحظة لها معطياتها، وأن القياس الساذج على التاريخ قد يكون خادعًا بقدر ما يبدو مطمئنًا؟

يقول بلال فضل في مقاله ثورة بلا دموع:

"لم أجد واقعة تاريخية تمت إدانتها أو الحكم عليها بشكل سلبي، إلا ويأتي من يقدم قراءة معاكسة تساعد على رؤيتها من زاوية مختلفة."

وأن بعض الوقائع محظوظة، تُقرأ بإنصاف منذ البداية، وأخرى تنتظر عقودًا لتُنصف.

فهل يمكن القول أن الفترة الناصرية، مثلًا، من الفترات "المحظوظة؟

أم أن استمرار الهزيمة، كما حلّل الدكتور خالد فهمي، هو ما يمنحها الحضور أكثر من كونها ماضٍ؟

وهل التحذير المستمر من تكرار الماضي، هو في حد ذاته، وجه آخر من وجوه إعادة إنتاجه؟ هل يعيد التاريخ نفسه بالفعل في كل مرة يثور فيها المصريون كاسرين سرديات "خنوع" مزعوم، أو على ظلم واقع، لتنكشف في كل مرة حدود الحركة وحدود الحلم؟

هل ما حدث في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وخروج الشعب على رئيسين، أحدهما استقر ثلاثة عقود، والآخر أقل من عامين، يعني أننا لم نتعلم شيئًا من الماضي؟

أم أن تعلم الدروس لا يمنع الوقوع في المحذور، هل يخفف من تبعاته؟

هل تصح تسمية الأولى ثورة، والثانية ثورة مضادة، لمجرد اختلاف المآلات؟ هل يصح أن نُقيِّم الثورات بمعيار نتائجها فقط؟

وهل سيتناول المؤرخون أحداث يناير وما تلاها، بنفس الطريقة التي نتناول بها فترة ما بعد يوليو 52 حتى 2011؟

هل ستبدو حيرتنا الحالية مفهومة؟ 

وهل يمكن أصلًا المضي قدمًا نحو مستقبل "جميل" إذا كان ماضينا مضببًا؟

وكيف نتصالح مع تاريخنا بينما لا نزال نعيش داخل ظلاله الكثيفة؟

ثم، إذا "عرفتُ لرِجلي موضعها"، وتذكرتُ عاقبة التفريط في الحرية،

هل يكفي الحذر بدلًا من الثقة المطلقة؟

هل "المياه تكدّب الغطاس" فعلًا؟

وهل "الثورة تكدّب الهجاص"؟

هل يصح أن نردد المثل "دلدلها للدبور.."، حين ندرك فداحة انقلاب عسكري؟

وهل إدراك البعض لسوء العاقبة، وجهل آخرين بها، أو حتى تجاهلهم لها،

يعفينا جميعًا من وقوع الفاجعة؟

أم أن التاريخ لا يعفي، بل يسجل، ويعيد الاختبار في كل مرة، بنفس الصرامة، ولكن بأقنعة جديدة؟


اعتذر عن الإسهاب وعن كثرة الأسئلة وإن بدت غير مترابطة. وارجو المعذرة إن اختلط علي الأمر أو غفلت عن شيء في عرضي للكتاب. 





وأخيرًا جمعت قدر الإمكان الكتب التي أشار إليها في مقالاته، مرتبة أبجديًا باسم المؤلف:

1. ابن خلدون – مقدمة ابن خلدون.

2. إبراهيم، ناصر أحمد عثمان – الأزمات الاجتماعية في مصر في القرن السابع عشر.

3. أبو الفتوح، أميرة – إحسان عبد القدوس يتذكر.

4. أمين، أحمد – زعماء الإصلاح في العصر الحديث.

5. أمين، مصطفى – لكل مقال أزمة.

6. أوزبورن، سركان – مقهى الباب العالي.

7. البوادي، محمد – مذكرات الشباب الوفديين والعمل الثوري في ثورة 1919.

8. التونسي، بيرم – الأعمال الكاملة.

9. الجبري، عبد الرحمن – تاريخ الجبرتي.

10. الحافظ ابن حجر العسقلاني – رفع الإصر عن قضاة مصر.

11. الرافعي، عبد الرحمن – الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي.

12. العلوي، هادي – شخصيات غير قلقة في الإسلام، تاريخ التعذيب في الإسلام.

13. الخيون، رشيد – طروس من تراث الإسلام.

14. الكواكبي، عبد الرحمن – طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

15. إمام، عبد الله – عبد الناصر والإخوان المسلمون.

16. النقاش، رجاء – رجال من بلادي.

17. النجار، عبد الوهاب – الأيام الحمراء، دراسة تحليلية للثورات.

18. باشا، نوبار – مذكرات نوبار باشا.

19. جين شارب – من الديكتاتورية إلى الديمقراطية - نحو إطار تصوري للتحرر.

20. زن، هوارد – التاريخ الشعبي للولايات المتحدة.

21. سلسيل ألبورت – ساعة عدل واحدة - الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية 1937 – 1943.

22. صلاح عيسى – دستور في صندوق القمامة.

23. عباس صالح، أحمد – عمر في العاصفة.

24. عوض، لويس – أباطيل وأسمار.

25. كلاين، ناعومي – عقيدة الصدمة.

26. لوبون، جوستاف – روح الثورات.

27. ليكيه، ويليام – الراهب المحتال.

28. هوفر، إيريك – المؤمن الصادق.

29. حسين، طه – حديث الأربعاء.

30. حمادة محمود إسماعيل – فصل مجهول من ثورة 1919.

31. كامل، مصطفى – الشمس المشرقة.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة زينب لأحمد الطحان.

بين الصحافة والسياسة (2)

كائن لا تحتمل خفته. ميلان كونديرا.