آلام وشرود
كنت أقف مستندًا إلى سور مدرسة الزراعة فى انتظار السيارة التي ستقلنى إلى بلدتي.
في الناحية المقابلة أمام المقهى حلقات صغيرة لفتيات ينتظرن. تمنيت لو تبقى معي جنيهًا اضافيًا كي اجلس على المقهى وأطلب شايا. لكن طريقي من الكلية إلى وسط البلد، تعيدني يا مولاي كما خلقتني، أقصد من دون نقود طبعا.
ما حدث أنني وفى طريقي نحو الميدان انعطفت ناحية أكشاك بيع الكتب المستعملة. وبينما أنكش في تراب الأرصفة، وجدت كتابًا كنت ابحث عنه من مُدّة فدفعت فيه ما تبقى معيّ واستسمحت البائع فى خصم جنيهان فقط والتى كانت كافية للمواصلات. ولا أعرف لما لم اذهب إلى محطة القطار -كنت سأوفر جنيهًا على الأقل أو أكثر إذا ادّعيت أنني من بنها أو تهربت من الكُمْساري- لكنني فضلت السير حتى وصلت إلى هنا.
في ظل غرقي في خيالاتي وحساباتي المالية الباهتة، تقدّمت نحوي فتاة، كانت تقف على الجانب الآخر. ولا أعرف لما راودتني تلك الخاطرة -العجيبة- بأنها تقصدني -أنا- تحديدا، إلى أن وقفت أمامي.
قالت: أهلا.
قلت بتردد: أهلا..
وسهلا.
اشارت باصبعها الرهيف نحوي: أنت معنا فى صيدلة، صح؟
هززت رأسي..
رحت بخيالي في ذلك الوجه، الشاحب، ويبدو أنني شعرت فيه بشيء من الألفة، ربما، أو أنني رأيته من قبل. بالتأكيد لم أرها في الجامعة. قالت كلمة؟ فتذكرت أنني في كلية العلوم، في السنة الثالثة.
كلنا فى مجمع واحد. صح؟
هززت رأسي مجددا مؤكدًا -هذه المرة- صحة ما تقوله.
ردّت بعفوية: طيب، ومدت يدها ببطاقة، هذه دعوة لحضور أمسيّة شعرية نقيمها الأسبوع القادم.
لم تكن البطاقة سوى قصاصة مربعة صغيرة، مطبوع عليها اسم الأسرة التي تنتمي إليها وتلخص الحدث. حفل يحييه جمعٌ من الشباب الحالم والمثقف أو على الأرجح من مدعى الحلم والفن والثقافة.
أمسية.. شعرية.. كيف عرفت أنه يحب الشعر.. إنه فخ جديد، لكن عينيها.. وابتسامتها.. كأن نداءا خفيا، قوة طاغية وملحاحة، لم تمنعاه من التقاطها بوجل.
ستحضر؟
سأحاول..
شكرًا!
خبأتُ بطاقتها في الكتاب.
وقلت: عفواً
ادارت ظهرها لي، ومشت.
قالت لم تسألني عن اسمي؟!
قلت: ما اسمك؟
كانت قد عبرت الطريق وظني أنها كانت تضحك.
حين أتت أول سيارة. في لحظة وقبل أن تفرغ حمولتها هجم الركاب عليها. ولا بد أن احدى صديقاتها قد أمّنت لها مكانا في السيارة لأنها اختفت أو ضاعت وسط الزحام.
انتظرتُ متخيلا مشيتها وهي تتقدم نحوي مبتسمة دون خجل، عيونها المشرقة وطريقتها فى الكلام. عدت إلى البيت محملا بهواجس وشكوك وفي يديّ الكتاب وبين طياته البطاقة.
تعليقات
إرسال تعليق